رسالتان من فلسطين، وثالثة من باريس
2020-03-25
واسيني الأعرج
واسيني الأعرج

لا نكتب الرسائل إلا عندما تضيق المساحات ونريد توسيعها ليسمعنا من نحب، فهي تذكرنا بالشيء الحميمي الذي يتخفى فينا، وكثيرا ما تنسينا مشاغل الحياة فيه. وصلتني هذا الأسبوع رسالة من الأسير الفلسطيني أسامة الأشقر، وأخرى من خطيبته منار خلاوي، أنشرهما هنا، بعد إذنهما، مع ردّي عليهما، إخلاصا لهما وللقضية الفلسطينية.

رسالة من الأسير أسامة محمد علي الأشقر، المحكوم عليه بثمانية مؤبدات.

بسم الله الرحمن الرحيم

القريب إلى القلب واسيني الأعرج، تحية معتقة بماء الورد نطيرها من خلف الأسلاك الشائكة ومن داخل فلسطين التي أحبتك وأحببتها، تحية مليئة بالاحترام والتقدير لإنسانٍ زرع حبه وأدبه في حياتنا رغم أنف السجان. فأنت من الأشخاص الحاضرين رغم بعدهم وغيابهم، ورواياتك الرائعة لها المكانة التي تستحق في وجداننا وقلوبنا.

فلكَ منا جزيل الشكر على هذه الروائع أولا، وعلى حضورها الدائم معنا ثانيا، وعلى دعمك فلسطين ومساندتها من خلال زيارتك لها ثالثا، ونسأل الله أن يجمعنا في ظروف أفضل من التي نعيشها اليوم.

اعتزازنا وإجلالنا، أخانا العزيز.

أسرى فلسطين، عنهم الأسير أسامة محمد علي الأشقر.

رسالة خطيبته منار خلاوي، التي كانت وسيطا بيننا

تعرفت على أسامة من خلال ابن خالي الذي كان زميلا لأسامة في السجن، وربطتهما علاقة صداقة قوية. كنت دائما أسمع عن شهامته وشخصيته القوية في السجن، لأنه يعد أحد قادة الحركة الأسيرة في سجون الاحتلال. وخلال هذه الفترة، كنت أتواصل مع ابن خالي من خلال الإذاعة، وكان أسامة يستمع إليّ وقد أعجب بشخصيتي وتفكيري، وسأل ابن خالي عني لخطبتي، ولكنه طلب من أسامة أن ينسى الفكرة بحكم وضعه كأسير محكوم عليه بثمانية مؤبدات وخمسين سنة سجنا، وأن العائلة لن توافق بأن يكون هناك ارتباط بيننا، إلى أن انتقل أسامة إلى سجن آخر، وقد حصل على رقمي الجوال. في البداية، شكرني على اهتمامي بقضية الأسرى، وبعد فترة عرض عليّ فكرة الارتباط به، وافقت في الحال، فقد كنت أصلا شديدة الإعجاب به وبشخصيته القوية، ولم يكن لدي مانع بالارتباط بشخص قد حكم عليه محتل بلادي وأرضي بالموت في مقابر الأحياء. طبعا، عرضت الموضوع على أهلي، ولم يكن الموضوع سهلا بالنسبة لهم. رفضوا فكرة الارتباط في البداية، لكن مع إصراري على الارتباط بأسامة، وافقوا في النهاية على قراري، وتمت خطوبتي به بمرور ثماني عشرة سنة على اعتقاله.

لم ألتق أسامة، ولم يرني حتى اللحظة إلا من خلال الصور الفوتوغرافية والشاشات التليفزيونية، حيث تم إجراء العديد من المقابلات معي للحديث عن أسامة وعن قصتنا. كما أني لم أحظ بشرف زيارته، فأنا بالنسبة للاحتلال غير معترف بي، حيث لا توجد أي صلة قرابة بيني وبينه. حالة واحدة تسمح لي بزيارته، هي عقد قراني معه، وهو ما لم يتم حتى اليوم.

رسالتي إلى أسامة ومنار.

الحبيب الغالي، أسامة الجميل، ماذا يمكنني أن أقول أمام قصتك وسرقة حقك في أرضك وحريتك سوى الانحناء بتواضع كبير أمامك وأمام تجربة الأسر التي صنعتك وغيرت حتما رؤيتك للحياة، ومنحتك مساحات جديدة للتأمل. لا يهم عدد التأبيدات على الرغم من ثقلها، ما دام وراءها حق مسروق وأرض محتلة.

عزيزي أسامة، لقد ذكرتني محنتك بوالدي أحمد الأعرج. كان عاملا في فرنسا في السكك الحديدية والمنشآت. شارك في نصب المتاريس مع رفاقه من العمال، يوم تحرير باريس من النازية. كان مؤمنا بأن سقوط النازية سيؤدي حتما إلى سقوط الاستعمارات، بالخصوص بعد وعود الجنرال دو غول. لكن للأسف، يوم كان الحلفاء يحتفلون باندحار النازية ويرقصون في الشوارع، كانت الجزائر تدفن خمسة وأربعين ألف شهيد خرجوا للمطالبة باستقلال بلادهم. يومها اتخذ والدي قرارا بالعودة إلى الوطن بعد اندلاع حرب التحرير، بدل الاكتفاء بالنضال في فيديرالية الجزائريين بفرنسا، إلى أن ألقي عليه القبض وتم أسره، ليستشهد تحت التعذيب في 02 أبريل 1959.

الحبيب أسامة، لا أعرف كيف أشكرك على نبل عواطفك تجاه زيارتي لفلسطين. لم يكن ذلك إلا تعبيرا عن شيء كبر معي وأنا صغير، إذ كانت فلسطين مؤشرا إنسانيا للتعبير للحق. ويوم أتاح لي متحف درويش برام الله شرف زيارة فلسطين، كان ذلك من أسعد أيام حياتي. التقيت جمهورا محبا لم أتخيله بتلك الكثافة وذلك الحب والتفاؤل. تمكنت يومها من زيارة نابلس، حيث عائلة الأسير الشاعر والروائي باسم خندقجي، الذي كان لي شرف التواصل معه من خلال عائلته الكريمة. فوجئت بالحب الفلسطيني المدهش الذي جعل مسرح الهواء الطلق برام الله وساحة البلدية في نابلس يكتظان بجمهور القراء. يومها زاد ارتباطي بفلسطين بشكل حميمي أعمق.

أسامة الجميل، محبتك ومحبة الأسرى لكتاباتي تملأني سعادة وفخرا، وتؤكد لي مرة أخرى أن الكتابة تخترق أصلب الجدران والأسلاك الشائكة، وتنسج علاقاتها العميقة خارج كل العوائق.

تأكد يا أسامة أننا لن ننساكم، مهما كانت قسوة الظروف التي نعيشها اليوم في مواجهة موت شمل العالم كله. كل الصفقات الإجرامية ضد القضية الفلسطينية ستتحلّل عند عتبات الحق الذي لا يموت أبدا. وأنت يا منار، ماذا أقول لك أمام جمال ما قمت به تجاه أسامة؟ لا شيء، سوى تقبيل جبهتك على هذه الشهامة الفلسطينية الاستثنائية. بنبلك هذا منحتِ أسامة حياة ثانية، إذ لا قوة تضاهي قوة الحب للاستمرار وكسر العزلة. وحده الحب الكبير يمنحنا القدرة على تحمل ما لا يمكن تحمله أبدا، ويضعنا في دوار الحلم العظيم حيث يصبح المستحيل ممكنا، رغم الأسلاك الشائكة والحيطان الجافة والظلم المستبد. قناعتك المترسخة بمقاومة أسامة ورفاقه جعلتكِ تتخطين العادي نحو التسامي عاليا ليصبح الحب نبلا وإخلاصا.

منار، لقد ذهبتِ وراء قناعتك حتى النهاية، وجسدتها بالوفاء لمناضل منح عمره للوطن، بالضبط في ذكرى مرور ثماني عشرة سنة على اعتقاله، لكسر اليأس والاستمرار في الحياة، وارتبطتِ بمثل أعلى وليس بأسير، ومنحت لهذه التجربة الإنسانية من روحك الزكية ومن آلام عزلة أسامة الفرصة بأن تمد جذورها وفروعها خارج الأسر ونحو الشمس.

لكما، أسامة ومنار، الحب ومديد العمر إلى أن تتحقق أمانيكما التي هي أمانينا حتما.

تظل فلسطين علامتنا للتحرر والنور والحرية. بكما، بكم نستمر.

واسيني بإعجاب وحب.

باريس، في دائرة الحجر الصحي، 18-03-2020



مقالات أخرى للكاتب

  • المَرْأة و«الجندر» وألمُ الكتَابَة والاعْتِراف
  • كيف خرجوا من معطف الرئيس؟
  • عزلة حتى التَّلاشي.. وفاة الرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة





  • كاريكاتير

    إستطلاعات الرأي