الرحيل أمتارا!
2024-02-10
سعد العجمي
سعد العجمي

كان الرحيل في الماضي يعني الولوج إلى المجهول، يعني أن تغادر وقد لا تعود، ما أصعبه من شعور! يترك الواحد كل شيء وراءه: أهله وأصدقاءه ودياره وأحبابه وذكرياته، وربما معشوقته التي كانت علاقته بها مجرد نظرات متبادلة عند الأصيل مع عودة الرعاة أو عند البئر أو جدول الماء حين ترد لملء القربة أو الجرة الفخارية. نظرة واحدة، واختلاس ابتسامة، تلك كانت كافية لقضاء الليل سهراناً يفكر بالمحبوبة ويقول فيها قصائد الغزل، وحداء الليل "يا ليلي يا عيني".

كان الرحيل يعني انقطاع أخبار كل من عرفتهم منذ طفولتك. كان الرحيل دموعاً وعناق الفراق الذي قد يكون أبدياً. كانت الناس ترحل بحثاً عن لقمة العيش أو عن حياة أفضل. قلة تلك التي كانت ترحل للسياحة والاستجمام، ما أصعب الحياة حين تحكم بالرحيل: حكمت عليك "بقعاً" بالرحيل لمدة غير معلومة.

سألته: "متى موعد طائرتك غداً؟".

"التاسعة صباحاً".

"أوووه! يا محيينا! القايلة. تشبع نوم وتروح للمطار على راحتك".

"أي نوم؟ ما يجيني النوم قبل السفر بيوم".

"ليش؟ فيك رهاب الطيران؟".

"لا، حتى لو كنت بسافر على سيارة أو قطار، أو حتى على رحول (راحلة)، ما يجيني النوم قبل السفر بيوم".

قلت له: لقد ورثت جينات الرحيل في الماضي، عقلك الباطن يحمل تلك المشاعر القديمة، يحمل ذلك الخوف من الرحيل الأبدي، تخاف من أن تغادر ولا تعود. يئن صوت وديع الصافي:

"على الله تعود على الله".

لم يستوعب قلبك ولا عقلك أن بإمكانك أن تشتري تذكرة سفر ذهاباً وإياباً. لم يكن ذلك المفهوم موجوداً في الماضي: "روحة وردة على هذه القافلة"، أنت ترحل على هذه الراحلة "روحة يمكن تكون بلا ردة". ONE WAY CAMEL هكذا تحدثك الهواجس التي ورثتها - يا صديقي - راحلاً عن راحل. بقي بك شعور الرحيل عالقاً في خلجات روحك، لا فرق عند عقلك الباطن بين الرحيل والسفر. يتردد صدى القصيدة المبتورة - أي مجهولة الشاعر - في جدران وجدانك:

يا راحل العيس عرج كي أودعهم *** يا راحل العيس في ترحالك الأجل

"ودع الهم وسافر واغربي"، ودع وجدانك يا صديقي تغني لأحمد رامي ما غنته أم كلثوم:

 بكرة السفر بكرة...

بكرة السفر ويروق بالنا *** وأفرح بقربك واتهنا

وإن كنا نهجر أوطاناً *** الحب يديلنا أوطان.

كاد صديقي يبكي حين قلت له إن أصعب أنواع الرحيل هو النزوح القسري الذي يمارسه القتلة والمجرمون والطائفيون لحظة حديثنا هذا. من السودان إلى ليبيا وسوريا والعراق وغزة بفلسطين وأكرانيا. ملايين من البشر ينزحون من أوطانها ومن بيوتها قسراً وقهراً: ذاك تهدم بيته أمام ناظريه، وهذا لا يستطيع أن يعود لقريته بالعراق أو سوريا لأن الميليشيات الطائفية سيطرت عليها وتصادر أملاك أهلها وتمنعهم من العودة إليها.

سقت له قصة من نسج الخيال الواقعي: أب لعائلة فلسطينية يلف باقي أطفاله بين ذراعيه بالبرد وفي العراء الآن. يحمد الله أن القصف الإسرائيلي لم يطل كل أفراد عائلته، فهو أكثر حظاً من فلان وفلان الذين فقدوا كل أفراد عائلاتهم وبيوتهم، هذا الأب نزح أمتاراً قليلة من بيته المهدم، أمتار قليلة فقط تفصله عن ذكرياته المتناثرة، وتذكاراته المتبعثرة، ينظر في عيني ابنته الصغيرة، يشعر بآلام الرحيل القريب، يدرك أنه لا يستطيع حمايتها. ينظر إلى بيته الذي يبعد عنه أمتاراً، ويدرك أنه قد رحل عن بيته هذا إلى الأبد، إنه رحيل من نوع جديد لم تعرفه البشرية من قبل: رحيل الترحيل والقصف والتنكيل، والتطهير الطائفي والعرقي – رحيل طويل على رغم قصر المسافة.

ألغى صديقي سفره قبل موعده بساعة.

*هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن موقع الأمة برس-اندبندنت عربية-



مقالات أخرى للكاتب

  • نحن والانتخابات الهندية
  • رفح ورفحاء
  • قطارات ومحطات






  • كاريكاتير

    إستطلاعات الرأي