
الإدارة الأمريكية تظهر، حتى بعد مرور أكثر من ثلاثة أشهر على الحرب في قطاع غزة، انغماسها الواسع فيما يحدث، وتكثر من التطرق بشكل علني للتطورات الجارية ولأولوياتها بخصوص استمرار العملية العسكرية، وفي أعقابها العمل السياسي. يمكن اعتبار الإعلان الذي نشره البيت الأبيض في 19 كانون الثاني، بعد انتهاء المحادثة بين الرئيس الأمريكي ورئيس الحكومة الإسرائيلية، تلخيصاً لأسس القضايا التي توجد – حسب رؤية الإدارة الأمريكية- في مركز الاهتمام.
المجهود الحربي – الإدارة الأمريكية ترى ضرورة لاستمرار الضغط العسكري من قبل إسرائيل على حماس وقادتها في القطاع. وتبارك انتقال الجيش الإسرائيلي من العمليات الواسعة إلى العمليات المركزة. الإدارة الأمريكية حتى الآن تتمسك بموقفها القائل بوجوب ألا تفرض على إسرائيل وقف إطلاق النار، الذي حسب رأيها سيساعد حماس على العودة إلى ترسيخ قوتها. ولكن خلافاً للتصريحات في بداية الحرب، يبدو أن الإدارة الأمريكية لم تعد تؤكد على هزيمة حماس كهدف، بل تكتفي بأقوال عامة تقول بأنه يجب ضمان ألا تستطيع حماس في المستقبل تكرار الهجوم الذي قامت به في 7 أكتوبر. في الوقت نفسه، تشير الإدارة الأمريكية إلى مواصلة العمل لضمان وتوفير كل ما هو مطلوب لإسرائيل للدفاع عن نفسها. الإدارة الأمريكية تقدر أيضاً أن استمرار القتال بدرجة منخفضة سيقلل المخاطرة بالتدهور إلى حرب شاملة في الشمال مع حزب الله.
زيادة المساعدات الإنسانية ومنع المس بالمدنيين – في محادثة مع رئيس الحكومة، عبر الرئيس الأمريكي عن الرضى من قرار إسرائيل السماح بإدخال الطحين إلى القطاع مباشرة من ميناء أسدود. وحسب الإدارة، فإن الانتقال إلى عمليات محددة سيمكن من زيادة المساعدات الإنسانية وإيجاد طرق للنقل المباشر للمساعدات من إسرائيل إلى القطاع. منذ بداية الحرب تتمسك الإدارة بطلب ضمان وصول المساعدات الإنسانية للقطاع، سواء كجزء من طلب إسرائيل الامتثال لقوانين الحرب الدولية أو بالإدراك أنها بذلك ستسهل عليها الحفاظ على هامش مناورة سياسي في سياق دعمها لإسرائيل – في الداخل وفي الساحة الدولية. على خلفية الضغط المتواصل على إسرائيل في موضوع المساعدات، تثني الإدارة الأمريكية على إسرائيل بسبب الخطوات التي اتخذتها في السابق، وتؤكد في المقابل أن هذا غير كاف، وأن على إسرائيل مواصلة تقليص المس بالمدنيين.
إطلاق سراح المخطوفين – تؤكد الإدارة الأمريكية في كل إعلان على جهود التوصل إلى إطلاق سراح المخطوفين. وقال البيت الأبيض إن المستشار الكبير للرئيس الأمريكي لشؤون الشرق الأوسط، بيرت ماك غورك، التقى سراً مؤخراً في الدوحة مع رئيس وزراء قطر الشيخ محمد بن عبد الرحمن آل ثاني، لمناقشة الجهود لبلورة اتفاق جديد لتحرير المخطوفين. كان هذا الموضوع في مركز اللقاء بين مستشار الأمن القومي جاك سوليفان ورئيس الحكومة في قطر في المنتدى الاقتصادي في دافوس. المتحدثون الأمريكيون الذين لا يكثرون من التطرق إلى مضمون المحادثات، أكدوا أن النقاشات في هذا الموضوع “جدية وحثيثة جداً”، وأن الإدارة الأمريكية تأمل بأن تثمر في القريب.
اليوم التالي للحرب – في إعلان البيت الأبيض بعد انتهاء المحادثة بين بايدن ونتنياهو، تم التأكيد على أن “الرئيس ناقش (مع نتنياهو) أيضاً حلمه في التوصل إلى السلام والأمن الثابت لإسرائيل بتعميق دمجها في المنطقة مع التوصل إلى حل الدولتين (في الموضوع الفلسطيني) وضمان أمن إسرائيل”. هذه الأقوال تتناول جهود الإدارة الأمريكية التي يقودها مستشار الأمن القومي سوليفان ووزير الخارجية بلينكن. هذان الشخصان الرفيعان شاركا في منتدى دافوس، الذي نشرا خلاله رؤية الإدارة الأمريكية بخصوص المعاني الإقليمية للمضي بخطة سياسية متفق عليها لليوم التالي للحرب في غزة. الرسالة الأساسية وجود فرصة حقيقية لتسريع عملية التطبيع بين إسرائيل والدول العربية، على رأسها السعودية. في خطابه في المؤتمر، عرض سوليفان الحلم الذي تحدث عنه بايدن مع نتنياهو في المكالمة الهاتفية، وأسسه:
- تقول الولايات المتحدة بوجوب خلق واقع في المنطقة يحقق لإسرائيل أمناً، وللفلسطينيين دولة خاصة بهم. حسب قوله: “أعرف الآن حيث الكثير من الغضب والألم وعدم اليقين، أنه يصعب تخيل هذا الحل. ولكن هذه في الحقيقة هي الطريقة
- تسريع عملية التطبيع يتعلق برؤية الإدارة الأمريكية ‘عطاء أفق سياسي للفلسطينيين. وأكد سوليفان أن لحكومة إسرائيل مواقف واضحة بخصوص هذا الموضوع (مفهوم ضمناً وجود مواقف لا توافق على العلاقة بين العمليتين)، لذلك يجب عليها اختيار الطريقة التي ستضمن أمن الدولة. حسب أقوال سوليفان، فإن الرئيس الأمريكي يعتقد أن الطريقة الأفضل لفعل ذلك هي حل الدولتين، الذي سيضمن أمن إسرائيل. وأكد سوليفان في السياق بأن الإدارة الأمريكية حتى قبل 7 أكتوبر، كانت تعتقد أن المفاوضات بين إسرائيل والفلسطينيين لن تنجح، لذا حاول تشكيل إطار مع السعودية يضم الفلسطينيين أيضاً.
تبرز في هذا السياق أقوال وزير الخارجية الأمريكي، التي تفيد بأنه “اليوم هناك شيء لم يكن موجوداً في السابق، وهو أن الدول العربية والدول الإسلامية، حتى خارج المنطقة، مستعدة لوجود علاقات بينها وبين إسرائيل، وهي مستعدة لدمجها والتطبيع معها وضمان أمنها. ولكنها على قناعة، ونحن كذلك، بأنها يشمل مسار الدولة الفلسطينية”. وحسب قوله، ومن أجل ذلك، نحن بحاجة إلى سلطة فلسطينية قوية ومحدثة يمكنها توفير خدمات ناجعة أكثر لأعضائها. أما بلينكن فأكد أنه إذا حدث تطبيع مع إسرائيل، مع إقامة الدولة الفلسطينية؛ أي حدوث تغيير مهم في المنطقة، فستمسي إيران معزولة وستضطر إلى اتخاذ قرارات خاصة بها.
وكرر بلينكن الرسالة التي أوضحها في لقاءاته في رام الله، وهي أن على الفلسطينيين اتخاذ قرارات، مع حكومة توفر احتياجات السكان. ولكن على إسرائيل مساعدة الحكومة الفلسطينية وألا تعارضها بصورة شديدة. وفي الإعلان عن مضمون محادثة بايدن ونتنياهو، تم التأكيد على أن الرئيس ناقش أيضاً التقدم المطلوب لتأمين ضرائب السلطة الفلسطينية كي تدفع الرواتب، بما في ذلك رواتب الأجهزة الأمنية في الضفة الغربية. هذا على خلفية عدم رضا الإدارة الأمريكية عن التأخير الذي تمارسه إسرائيل بخصوص تحرير أموال الضرائب للسلطة الفلسطينية والمصادقة على دخول العمال الفلسطينيين إلى إسرائيل.
تعمل الإدارة الأمريكية وبحق على الدفع قدماً الآن بوضع التشكيلة الهندسية الإقليمية لليوم التالي للحرب. واضح أن الطريق إلى تشكيلها طويلة ومليئة بالعقبات. وهي لا تخفي هذا التقدير، لكنها تصمم على عرض حلم واضح وتكريس الاهتمام والموارد له، بما في ذلك من قبل الرئيس ومستشاريه الكبار للمضي لهذا الهدف. وحسب رؤية الإدارة الأمريكية، وهذا ما يظهر بوضوح في أقوال وزير الخارجية الأمريكي، فإن عبء الإثبات بخصوص جعل الحرب في القطاع فرصة لإعادة تشكيل الشرق الأوسط، ملقى على إسرائيل، في الوقت الذي تشخص فيه، ربما للمرة الأولى بشكل واضح، استعداد الطرف العربي لذلك رغم أنه استعداد مشروط بالدفع قدماً بحل القضية الفلسطينية.
تتوقع الإدارة الأمريكية أن توفر إسرائيل لها طرف خيط يمكنها من الدفع قدماً بحلمها السياسي، لكن يبدو أن الإدارة الأمريكية تعتقد حتى الآن أن إسرائيل تماطل، ولم تقدم أي رد على هذا الطلب. لذلك، هي لا تخشى من التعبير عن خيبة الأمل، بالأساس عن طريق التسريبات التي تعكس ذلك في وسائل الإعلام الأمريكية. يمكن التقدير بأن الرئيس الأمريكي لا ينوي التنازل، والضغط على إسرائيل في هذا الموضوع سيزداد، وهذا التقدير لم يتغير في أعقاب المحادثة بين بايدن ونتنياهو. هذا الموضوع احتل مكان الصدارة في المحادثة، حتى إن الرئيس قال للمراسلين بعد ذلك “ربما يمكن التوصل إلى حل الدولتين رغم وجود نتنياهو في الحكم. هناك الكثير من أنواع حل الدولتين. هناك دول أعضاء في الأمم المتحدة ولكن لا جيوش خاصة لها. وهناك دول عليها قيود. إذاً، أعتقد أن هناك طرقاً لنجاح ذلك”.
الرئيس الأمريكي يواصل دعمه القوي لإسرائيل ولا ينجر وراء طلب يظهر في أوساط المشرعين الديمقراطيين، وهو ربط المساعدات لإسرائيل بالاستجابة الإيجابية من ناحيتها للمبادرات السياسية. ولكن الواقع المعقد للحملة الانتخابية للرئاسة والكونغرس ربما يقلص هامش مناورة الرئيس إذا صعب عليه أن يعرض إنجازات سياسية في سياسته الخارجية.
على هذه الخلفية، يجب الأخذ في الحسبان أنه ورغم امتناع الإدارة الأمريكية عن استخدام رافعة ضغط على إسرائيل حتى الآن، فإن حكومة إسرائيل -كما تقدر- غير مستعدة للتعاون معها في الدفع قدماً بخطة لليوم التالي للحرب، الذي قد يحمل معاني سلبية على استعداد الرئيس لمواصلة اهتمامه بالدفاع عن مواقف إسرائيل ومساعدتها فعلياً في الحرب.
الداد شبيط
نظرة عليا 23/1/2024