سلام أو ثأر  
2023-12-15
نبيل فهمي
نبيل فهمي

 

نظراً إلى أي مدى بلغته الشراسة وسفك الدماء خلال الأحداث الأخيرة في غزة، لن تكفي الإجراءات الموقتة المتزايدة من أجل حل الأزمة الحالية، فما يترتب على حدة التوترات وانتشار الألم العميق هو دبلوماسية شجاعة وطموحة وخلاقة، وكل ما يقل عن ذلك سيؤدي إلى إدامة دورة العنف، لا سيما إن أخذنا في الاعتبار القرارات السياسية الوجودية التي تواجه حركة "حماس" والقادة الإسرائيليين.

تنبغي معالجة الأزمة في غزة على وجه السرعة وحل القضايا الأساسية في الصراع الفلسطيني- الإسرائيلي تحت مظلة سياسية مفصلة يرسخها قرار صادر عن مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة. ويجب أن تكون هذه المبادرة المطروحة جوهرية ومتينة بحيث تعالج المشكلات الملحة والفورية، كما تؤكد نهاية الصراع بين فلسطين وإسرائيل بغية الدفع باتجاه تغيير حقيقي في الديناميات السياسية داخل مجتمعي الطرفين وحثهما على تخطي الانتقام وحتى نبذ القادة المتعنتين إن اقتضى الأمر.

أنا لا أساوي من الناحية الأخلاقية بين المحتل الإسرائيلي والفلسطينيين، ذلك الشعب الواقع تحت الاحتلال منذ سبعة عقود، لكن الألم والمعاناة من الجهتين قد ولّدا ثقافة ثأر وقصاص متبادلة بعد عمليات سلام فاشلة متكررة ودوامة عنف لا تنتهي.

يشكل التاريخ المعاصر للصراع العربي- الإسرائيلي، لا سيما في ما يعني الشق الفلسطيني فيعيش الناس تحت نير الاحتلال، شهادة واضحة على أن العنف يولد العنف، ورأينا ذلك من الطرفين مع محاولة المستوطنين الإسرائيليين الاستيلاء على مزيد من الأراضي ودفاع الفلسطينيين عن ديارهم وأراضيهم، لذا فإن حل الوضع الراهن في غزة عبر إنهاء الأعمال العدوانية موقتاً من دون معالجة القضية الأساسية لن يوفر الأمان لإسرائيل ولن يؤدي إلى إقامة دولة للفلسطينيين.

يعود سبب الفشل المتكرر لعمليات السلام في إطار الصراع العربي- الإسرائيلي لامتداد هذه العمليات على فترات طويلة تغير خلالها القادة السياسيون كما تغير النهج القائم، وخير مثال على ذلك هو عملية أوسلو بعد اغتيال رئيس الوزراء إسحق رابين والجهود التالية إلى حين وفاة ياسر عرفات.

أما استئناف عملية سلام مطولة ومبهمة بين الفلسطينيين والإسرائيليين، فلن يكتسب زخماً ولن يتسم بالصدقية المطلوبة من أجل حشد الدعم الضروري من جمهوري الطرفين لحل القضايا النهائية الصعبة مثل ترسيم الحدود والتدابير الأمنية ووضع القدس واللاجئين والتعويضات المالية، إلخ. 

البدائل: السلام أو الانتقام

بلغت الأزمة الراهنة في المنطقة مفترق طرق، وأمامنا بدائل على طرفي نقيض، فإما تحقيق السلام الشامل أو الغرق في موجات من الثأر والقصاص المدمرة.

 ومن شأن الخيار الأول أن يمكن الفلسطينيين من الإيمان بأن الخسارة المأسوية لأكثر من 15 ألف ضحية في غزة لم تكن سدى، ويمكن الإسرائيليين من القول إنه على رغم الخسائر البشرية التي تكبدوها، فقد ضمنوا أمنهم إلى الأبد.

وأفضل السبل لتحقيق هذا هو من خلال مبادرة سلام شاملة تعالج القضايا الفورية والمزمنة، تدون دولياً في قرار لمجلس أمن الأمم المتحدة، وتتصدى للأزمة الراهنة والملحة من خلال وقف لإطلاق النار ووقف المناوشات عبر الحدود ومعالجة الجوانب الإنسانية وتوفير المساعدات وتبادل الرهائن وتحقيق حل الدولتين على أساس حدود العام 1967، مع بعض التعديلات الطفيفة المتفق عليها من الطرفين وتوفر حلولاً محددة لوضع القدس وحق الفلسطينيين بالعودة أو بالتعويض.

كما يجب أن تشمل هذه الخطة تدابير أمنية مفصلة لحماية الطرفين من الهجمات المباغتة في الضفة الغربية أو غزة أو إسرائيل، وتؤكد مبادرة السلام العربية التي اعتمدتها جامعة الدول العربية خلال انعقاد قمتها في بيروت عام 2002 والتي نصت على أن إنهاء الاحتلال الإسرائيلي للأراضي العربية سيمهد الطريق لتطبيع العلاقات بين إسرائيل والدول العربية ككل. وتستدعي كل واحدة من هذه الركائز توسيعاً وتفصيلاً قد يحدثان بوتيرة متفاوتة، لكن من الضروري معالجتها كلها على وجه السرعة ويجب أن توضع تحت إطار موحد يمنحها أهمية عاجلة وتوجيهاً واضحاً. 

طرحت المحادثات السابقة وفرة من الوثائق التفصيلية المعاصرة للمفاوضات العربية- الإسرائيلية وهي مليئة بالمعادلات والتسويات المتعلقة بجميع هذه الجوانب، والشيء الوحيد الذي كان ينقص هو الإرادة السياسية للقيادات السياسية للأطراف المعنية.

الرعاة المحتملون

باستثناء حالات قليلة، حددت قرارات القادة الإقليميين مصير الحرب أو السلم في الشرق الأوسط. لذا، فإن أفضل الخيارات قد يكون طرح هذه المبادرة مبدئياً برعاية دولة عربية، لكن تواصل العنف وسقوط الضحايا المدنيين باستمرار قد يجعل الرعاية الإقليمية غير ممكنة. وكان الخيار الثاني للرعاية ليقع على الولايات المتحدة نظراً إلى دورها البارز في المنطقة منذ حرب 1973، لكن الدعم المطلق الذي تقدمه لإسرائيل يجعل هذا الخيار متعذراً، لا سيما أن أحداث غزة تجرد الولايات المتحدة من دورها كوسيط محايد للسلام، ولا تقبل على التعامل مع روسيا أو الصين في هذا الصدد. وقد يكون تولي رئيس مجلس الأمن أو عدد من أعضاء المجلس غير الدائمين رعاية المبادرة خياراً تكتب له الحياة، لا سيما بعد تفعيل الأمين العام للمادة 99 من ميثاق الأمم المتحدة لأسباب إنسانية.

لا شك في أن النجاح صعب المنال، لا سيما في الشرق الأوسط شديد الاضطراب ووسط علاقات يشوبها التردد بين قوى العالم العظمى، لكن تكرار ممارسات الماضي أو التساهل لن يؤدي سوى إلى تفاقم المظالم ومزيد من إراقة الدماء.

 إن القرارات الواضحة والصعبة هي بذل جهود دبلوماسية جبارة لحل الأزمة الحالية كما الأسباب الجذرية للصراع، وإلا فسوف تشهد المنطقة طوفاناً من الانتقام العنيف بين المقاتلين والمدنيين على حد سواء.

 

*هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن موقع الأمة برس-الاندبندنت عربية



مقالات أخرى للكاتب

  • أنطونيو غوتيريش... رجل المواقف الواضحة
  • الضحايا تتضاعف والغرب يفقد صدقيته سريعاً!  
  • خلاصتان مهمتان من "طوفان الأقصى"  






  • كاريكاتير

    إستطلاعات الرأي