فلتقتحموا غزة، ولكن خذوا معكم مكبرات صوت
2023-10-21
علي الصراف
علي الصراف

بعض الحقائق البسيطة، يغني عن الكثير من التحليل.

أولها، إسرائيل قوة احتلال. وكأي قوة احتلال أخرى عرفتها الكرة الأرضية منذ سبعة آلاف عام، فإن محاربتها حق لا يتحمل الكثير من الجدل.

ثانيها، قوة الاحتلال هذه تنكر تماما أنها كذلك، إنما لكي تنكر أن يكون لضحايا الاحتلال أي حقوق. وهذا موقف قمين بالمقاومة. على الأقل، لأنه أحمق.

ثالثها، إسرائيل لم تقدم شيئا للسلام. لم تنفذ أي قرار من قرارات مجلس الأمن الدولي الخاصة بوقف الصراع. ظلت تتوسع بالمستوطنات على حساب الأراضي الفلسطينية التي تشملها تلك القرارات، مما يعد، من وجهة نظر القانون الدولي، اغتصابا، وجرائم حرب. ومما يعد في أعين المتضررين، عملا يستحق المقاومة بكل الوسائل بما فيها الوسائل المسلحة، لأن الاغتصاب، هو نفسه، مسلح.

رابعها، الفلسطينيون أظهروا، منذ اتفاقات أوسلو، أنهم يريدون السلام، وأنهم مستعدون لتقديم التنازلات، استعدادهم للتفاوض على تسويات. ولكن إسرائيل كنست تلك الاتفاقات، ورمتها في سلة المهملات، هي والذين يؤمنون بها معا.

خامسها، المنطقة المحيطة بإسرائيل تريد السلام أيضا. وأظهرت دول عربية عدة الاستعداد للتطبيع وإقامة علاقات دبلوماسية وتجارية، من أجل تقديم الدليل على أن من الممكن استيعاب إسرائيل في المنطقة، والاعتراف بحقها في الوجود، إنما على قاعدة الاعتراف بحق الفلسطينيين في الوجود، كشعب يستحق أن ينال حريته وحقه بتقرير المصير.

نظرتنا ما تزال تقول: الأمم الواثقة من نفسها لا تخشى من الغرباء. مصر، على سبيل المثال، احتوت عبر تاريخها الطويل كل أنواع الغزاة، وظلت أمة تنبض بالحياة. تنبض بنفسها. الفلسطينيون كذلك. ومثلهم كل العرب الآخرين.
إسرائيل نظرت إلى هذه الرؤية، إما على أنها ضعف، وهو تصوّر سخيف، وإما على أنه “فرصة” لتجاوز الاستحقاق المقابل، وهو تصّور أسخف.

سادسها، الفلسطينيون شعب يساوي بتعداده شعب إسرائيل. لا يمكن شطبه من المعادلة. كما لا يمكن فرض سلام مزيف عليه. سوف يظل فيه، من يتمرد على الزيف. ولهذا السبب يقال إنه ما لم يكن السلام عادلا وشاملا، فلا سلام فيه. وهو ما تكشفه الأحداث الراهنة في غزة.

وسابعها، العالم، بمعظم قواه المؤثرة، فشل على امتداد ثلاثة أرباع القرن في إقناع إسرائيل بالامتثال لمنطق الحلول السلمية. وانجر وراء رهاناتها على إملاء ما تريد بالقوة.

قصارى القول من ذلك: لا تستطيع أن تلقي باللوم على حماس لأنها تقاوم. يكفي أن يقف بنيامين نتنياهو على منصة الجمعية العامة للأمم المتحدة لكي يقدم خارطة جديدة لإسرائيل ليس فيها غزة ولا ضفة غربية، لكي يفهم الفلسطينيون، المسالمون منهم وغير المسالمين، أنه وطاقمه اليميني المتطرف، يريد شطبهم من الوجود. لم يكن ذلك تصرفا لسياسي أرعن يبحث عن البقاء في قمة السلطة. إنه منهج ثابت، رسخه “الملك بيبي” منذ العام 1996 إلى اليوم. وهو منهج أيديولوجي لطاقمه الحكومي كله، بل إنه منهج لما لا يقل عن 90 في المئة من التيارات السياسية في إسرائيل.

وسواء ألقيت باللوم على حماس أم لا، فإن كل أنواع التطبيع، وكل تطلعات احتواء الصراع ستتوقف بعد أن أمعنت إسرائيل في تدمير غزة وقتل أهلها. حتى لم يعد هناك أفق للسياسة في المدى المنظور، إلى حين إتمام إسرائيل انتقامها.

والانتقام لا يصنع نصرا. إنه وهم. إلا أنه منهج في إسرائيل. موقف إستراتيجي. كما أنه تصوّر للوجود. وهو ماض في طريقه قدما، ولن يوقفه أي شيء.

كيف ستكون النهاية؟

ها هنا يكمن السؤال الكبير.

إسرائيل تملك إستراتيجية دفاعية واحدة، تقوم على مبدأ واحد هو: الدمار الشامل. ما يحصل الآن في غزة، حصل في لبنان في العام 2006. دمار شامل، على أساس أنه تأديب عن طريق السحق والمحق. لكن بعد جيل واحد أو أقل من النسيان، ستعود هناك حاجة إلى دمار شامل جديد.

تعتقد إسرائيل أن وجودها كله، لا يتحمل هزيمة واحدة. هذا اعتقاد راسخ، لأنه يستبطن شعورا دفينا بأن وجودها هش. وأنها ما لم تنتصر، فإنها سوف تختفي من الوجود.

هذا الاعتقاد يشجع حماس. وهو يغذي عزائمها على صنع الهزيمة لإسرائيل بأي ثمن كان. لا يهم التدمير. لا يهم عشرات الآلاف من الضحايا، لأنهم شهداء في النهاية، ولأنهم يخوضون معركة مقدسة. ولكن أهم من ذلك كله هو أن الفلسطينيين لا يخشون الهزيمة. هزموا عدة مرات من قبل. وعادوا.

قبول الهزيمة دليل على القوة، وليس الضعف. إنه دليل على حيوية المجتمع وقدرته على توليد تجدده وبقائه.

الولايات المتحدة قوة عظمى. هل تعرف لماذا؟ لأنها هزمت في فيتنام. وهزمت في أفغانستان. وهزمت في العراق. ويمكن أن تهزم في أوكرانيا أيضا. ولكنها تقف على قاعدة “وجود” صلبة. وكلما تعرضت لهزيمة، خرجت منها أقوى.

إسرائيل ليست كذلك. لأنها مهزومة من الداخل سلفا. تشعر بعمق أنها كيان مؤقت. أو خيالي. وأنها باقية بقوة الدبابات والطائرات فقط. كل شيء فيها قائم على “الضمانة” التي تقدمها هذه القوة. وإلا فإن سكانها يرحلون. يعودون إلى الشتات، لأنه أأمن لهم.

وهذا مما يشجع حماس، ويزيدها استعدادا لخوض أي معركة، بصرف النظر عن النتائج.

المنطقة التي فتحت أبواب السلام والتعايش لإسرائيل، سوف تنتظر. تأخذ فسحة للنسيان، أو تغرق في منطق العداء لإسرائيل بسبب ما تفعله ضد المدنيين، إلا أن المنطقة ترى بوضوح، أن إسرائيل تصنع لنفسها قدرا مظلما، بالنصر أو الهزيمة في آن معا.

محلل عسكري يظهر على “قناة الجزيرة” هو اللواء فايز الدويري قدم وصفا طريفا لقدرات إسرائيل العسكرية، قال “650 ألف جندي، و11 ألف دبابة، و900 طائرة، لو أرادت أن تعمل استعراضا عسكريا، فإن مساحة قطاع غزة لن تكفيه”.

هذه القوة، يمكن أن تحقق الانتصار في غزة، ولكن بما لا يقل عن خسارة 30 ألف جندي، أو 5 في المئة فقط من التعداد الكلي. الوحدات العسكرية تقبل هذه الخسارة في العادة. ولكن إسرائيل لا تتحملها.

وهذا ثمن، عندما يُدفع، فإن النصر نفسه سوف يكون هزيمة. ويشجع الجيل التالي من المقاومين.

تريد إسرائيل أن “تقضي على سلطة حماس”. هذا هو الهدف المعلن للحرب. حماس تضحك. لأن القضاء على 40 ألف مقاتل، سوف يقضي على إسرائيل أيضا.

هل هناك من يتذكر “شمشون الجبار” الذي هدم المعبد على نفسه؟

يقول “سفر القضاة” في الإصحاحات من 13: “ثُمَّ عَادَ بَنُو إِسْرَائِيلَ يَعْمَلُونَ الشَّرَّ فِي عَيْنَيِ الرَّبِّ، فَدَفَعَهُمُ الرَّبُّ لِيَدِ الْفِلِسْطِينِيِّينَ أَرْبَعِينَ سَنَةً”.

“وَكَانَ رَجُلٌ مِنْ صُرْعَةَ مِنْ عَشِيرَةِ الدَّانِيِّينَ اسْمُهُ مَنُوحُ، وَامْرَأَتُهُ عَاقِرٌ لَمْ تَلِدْ”.

“فَتَرَاءَى مَلاَكُ الرَّبِّ لِلْمَرْأَةِ وَقَالَ لَهَا: هَا أَنْتِ عَاقِرٌ لَمْ تَلِدِي، وَلكِنَّكِ تَحْبَلِينَ وَتَلِدِينَ ابْنًا”.

“وَالآنَ فَاحْذَرِي وَلاَ تَشْرَبِي خَمْرًا وَلاَ مُسْكِرًا، وَلاَ تَأْكُلِي شَيْئًا نَجِسًا”.

“فَهَا إِنَّكِ تَحْبَلِينَ وَتَلِدِينَ ابْنًا، وَلاَ يَعْلُ مُوسَى رَأْسَهُ، لأَنَّ الصَّبِيَّ يَكُونُ نَذِيرًا للهِ مِنَ الْبَطْنِ، وَهُوَ يَبْدَأُ يُخَلِّصُ إِسْرَائِيلَ مِنْ يَدِ الْفِلِسْطِينِيِّينَ”.

شمشون كان محاربا شجاعا، مثل “الملك بيبي” تماما، وكان يستخدم قوته لقتال أعداء إسرائيل. كانت لديه قوة هائلة تمكّنه من قتل الأسود وخلع أبواب المدينة من جدرانها. ولكنه وقع بغرام فلسطينية تدعى “دليلة”. فأسرّ لها بسر قوته، وإنها في جدائل شعره السبع، فإذا تم قصها ذهبت قوته. نام على ركبتها. وكان ما كان. وأذله الفلسطينيون، وجعلوه يعمل ما كان يعمله الحمار. فلما عاد شعره لينبت من جديد، دخل شمشون إلى المعبد وتضرع إلى الرب أن يمنحه القوة مرة أخيرة للانتقام من أعدائه، فاستند إلى اثنين من أعمدة المعبد وصاح: “لِتَمُت نفسي مع الفلسطينيين”، ثم دفعهما ليسقط البناء على كل من فيه.

وهذا ما يفعله “بيبي” وكل عصابة “إستراتيجية” التدمير الشامل في إسرائيل.

كل الفكرة الإسرائيلية، في موضوع الوجود، قائمة على “إننا نستطيع أن نقتلكم. وإذا اقتضى الأمر، أن نقتل أنفسنا معكم”. وليس أن تعيشوا ونعيش معكم.

شيءٌ سخيف حقا. شيءٌ فيه من الحماقة ما لا يمكن أن يتخيله الحمار.

في العام 1982، وهو عام لا يريد الإسرائيليون أن يتذكروه، ولا تسمع خبراءهم يتحدثون عنه، حدث أن اجتاحت القوات الإسرائيلية بيروت. كانت أول عاصمة عربية تسقط بيد إسرائيل. كانت أكثر إغراء من دليلة. وكان ذلك نصرا مشهودا، قبل أن ينقلب إلى هزيمة مشهودة. قصّت بيروت جدائل شمشون من جديد.

وبيروت ليس فيها أنفاق. ولم يكن قد بقي فيها الكثير من السلاح، بعد انسحاب منظمة التحرير منها. ولكن لم تمض بضعة أيام على عمليات المقاومة، حتى اكتشف الجيش الإسرائيلي هشاشته وهو على ظهور الدبابات. اكتشف أنه صار يعمل ما يعمله الحمار. ما اضطره إلى أن يعلن عبر مكبرات الصوت “أيها اللبنانيون، نحن ننسحب، رجاء لا تطلقوا النار”.

خير للجيش الإسرائيلي، عندما يجتاح غزة، أن يحمل معه مكبرات صوت. ستكون مفيدة بكل تأكيد.

*كاتب عراقي



مقالات أخرى للكاتب

  • "يا وحدنا" التي كانت تنتظر إيران
  • المشكلة مع وطنية العسكر
  • أزمة المناخ، آخر الهمّ في العالم العربي






  • كاريكاتير

    إستطلاعات الرأي