المشكلة مع وطنية العسكر
2023-08-07
علي الصراف
علي الصراف

لم تجرّب النيجر الكثير من الديمقراطية. المشهد الرئيسي للتحول الديمقراطي بدأ من محمدو إيسوفو الذي تولى الرئاسة بين عامي 2011 و2021، قبل أن يسلم السلطة، عبر الانتخابات، للرئيس الحالي محمد بازوم.

النيجر واحدة من أفقر بلدان العالم، حتى بالمقاييس الأفريقية. فهي سادس أفقر بلد أفريقي بعد بوروندي وجنوب السودان وجمهورية أفريقيا الوسطى وجمهورية الكونغو والصومال. وعندما تولى إيسوفو السلطة كانت خزائن الدولة فارغة والموظفون لم يتلقوا رواتبهم لـ11 شهرا.

اقتصاد النيجر يعتمد على عنصرين رئيسيين: الزراعة التي تشكل نحو 40 في المئة من الناتج الإجمالي، والمعادن التي يشكل اليورانيوم جُزأها الأكبر.

سنوات الحكم الديمقراطي القصيرة لم تتمكن من حل مشكلات الفقر. إلا أنها وفرت سبيلا لتحقيق نمو مطرد تراوح بين 5 و7 في المئة كل عام. وكان ذلك يعني أن البلاد سائرة في الطريق الصحيح، حتى ولو كان وعرا. لا يمكن أن تقضي على فقر متوارث لمئات السنين بغمضة عين. يحتاج الأمر صبرا وتوفير موارد. والى حد الساعة فإن 45 في المئة من ميزانية الدولة يعتمد على المساعدات الأجنبية، التي يقدمها البنك الدولي والصندوق الدولي والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وفرنسا على وجه الخصوص باعتبارها المستعمر السابق، وذلك لأنها تستورد 70 في المئة من احتياجاتها من اليورانيوم من هذا البلد.
وعلى الرغم من كل الانطباعات عن “الاستغلال الاستعماري”، وهي صحيحة بمقاييس ما قبل الاستقلال، الذي تحقق للنيجر في أغسطس 1960، فإن التعاملات التجارية الحالية محكومة في الكثير من جوانبها بأسعار السوق ومعاييره وعقود شركاته. هناك أوجه أخرى للاستغلال طبعا، إلا أنها أقل وحشية مما كانت في الماضي. ويشكل تقديم المساعدات وجها آخر لتغطيتها. وفي الواقع فإن الناتج المحلي الإجمالي للنيجر، بحسب البنك الدولي في عام 2020، كان يبلغ حوالي 7.5 مليار دولار أميركي. ولكن هذا الناتج تضاعف في عام 2021 ليبلغ 14.92 مليار دولار أميركي. وكانت حصة الفرد الواحد من هذا الناتج تبلغ حوالي 507 دولار أميركي.

إنها أرقام للفقر، ولكنه فقر في الطريق الصحيح. ولك أن تتخيل ماذا كان يعني هذا الفقر بالنسبة لـ25 مليون نسمة، قبل الاستقلال وبعده.

المستعمرون الفرنسيون يستحقون الكراهية، كغيرهم من المستعمرين. فرنسا تعرف ذلك. ولكن الكراهية لا تكفي لصنع التقدم. والمستعمرون أنفسهم يحاولون التكيف مع متطلبات العلاقة مع دول مستقلة على نحو يوحي بوجود “مصالح مشتركة” و”منافع متبادلة”. تحدد الشركات الكبرى معايير العقود وأسعار المواد الأولية في الأسواق الدولية. وتعاملك على أساسها.

القيمة الحقيقية لليورانيوم أكثر من عشرة أضعاف أسعاره في “السوق”. كما هو الحال مع النفط والغاز. والسوق هو الاستعمار الجديد. وإذ لا تملك إلا التعامل وفقا لمعاييره، فإنها مما لا تُواجه بالانقلابات العسكرية.

سلسلة العقوبات التي اتخذتها مجموعة دول غرب أفريقيا (إيكواس)، أظهرت أن هذا البلد لا يمكنه أن يحصل على الاستقرار بالاستغناء عن روابطه بهذه المجموعة التي تضم 15 بلدا. لا يتعلق الأمر بأن نيجيريا قطعت إمدادات الكهرباء فقط، ولكنه يتعلق بدرجة أثقل على قرار المصرف المركزي للمجموعة بإغلاق فروعه في النيجر، وتجميد أرصدتها فيه. و”الفرنك الغرب أفريقي” الذي يصدر عن هذا المصرف، هو العملة الرسمية للنيجر إلى جانب سبع دول أخرى.

سوف يحتاج العسكر أن يطبعوا عملة أخرى من ورق الشجر، ليُطعموا بقرة السلطة.
قائد الانقلاب الجنرال عبدالرحمن تياني اعتبر العقوبات ضد بلاده “غير قانونية وغير إنسانية”. يمكن أن تصيبك الدهشة، كيف أن انقلابيا مثله يتحدث عن “القانون”. ولكن هذا من أهون الشرور.

إذا كنت جنرالا فإنك تستطيع أن تستولي على السلطة في الكثير من بلدان العالم في عشر دقائق. تاريخ الانقلابات في النيجر نفسها، كما في جوارها مثل مالي وبوركينافاسو وتشاد، يُثبت ذلك.

المشكلة هي: كيف تحكمها من بعد؟

العسكريون “وطنيون” في بعض الأحيان. بمعنى أنهم ربما يتبنون تطلعات تقصد خدمة مصالح شعبهم، وليس مصالحهم الخاصة أو فسادهم. ولكنهم في معظم الأحيان الأخرى فاسدون حصرا.

تياني قد يكون كيفما شاء أن يصوّر نفسه. إلا أنه اتخذ قرارا، في عشر دقائق، أثبت خلاله أنه غبي. لم يحسب أيّ شيء، سوى قدرته على أن يقفز على بقرة السلطة ليغتصبها. هذا هو كل شيء في الواقع. ولو أتيح له أن يتمكن منها، فإنه سيواجه سلسلة من الأسئلة الأخرى. أولها: من أين يأتي بالمال لسد العجز في ميزانية الدولة؟

لا تحتاج دول مجموعة إيكواس، التي هددت باستخدام القوة، أن تعيد الرئيس بازوم إلى سلطته بالقوة. قد ينطوي الأمر على مضاعفات قبلية، فضلا عن احتمالات امتداد النزاع العسكري إلى مالي وبوركينافاسو اللتين قالتا إن أيّ تدخل عسكري خارجي سوف يعني حربا عليهما.
هذان البلدان يرزحان هما أيضا تحت العقوبات. والعسكر هناك، حتى وإن كانوا يشعرون بالأمن، لأنهم يعتمدون على مجموعة فاغنر الروسية، إلا أنهما يواجهان أوضاعا أمنية واقتصادية عسيرة. ومن الناحية الاقتصادية، فإن النيجر في وضع أسوأ.

المشكلة مع وطنية العسكر، هي أنها وطنية غبية. تمتلك القدرة على الاستيلاء على السلطة، ولكنها لا تعرف شيئا واحدا من بعد ذلك. فتظل تتخبط. ورقة الاستيلاء على السلطة هي الصفحة الأولى في الدفتر. أما الصفحات الباقية فإنها فارغة.

تجربة الانقلابات العسكرية في العديد من بلدان العالم الثالث، لا يجسدها شيء، أفضل من واقع أنها قرار ينطح آخر، وسلطة تنطح أخرى، ووطنية تناهض غيرها، وأعمال اعتقالات وتعذيب وسفك دماء وقهر جماعي، من أجل أن يجرّب الجنرال حظه في سلطته “الوطنية”.

أفضل ما يمكن فعله لاستعادة الديمقراطية في النيجر هو ترك جنرالات الانقلاب يتقلبون على جمر الفقر. فيزيدوه استعارا. ساعتها سوف يعرف النيجيريون ما أهمية أن يكون لديهم رئيس منتخب.

على الأقل، يمكنهم إزاحته إذا فشل. أما العسكر، فلا ينزاحون بالفشل. يأتي جنرالات غيرهم ليكرروا ما فعل السابقون.

جمر الفقر، إذا عاد ليستعر بالفشل، هو الذي سوف يحرم الجنرالات من القفز على بقرة السلطة ليغتصبوها بوطنيتهم الزائفة. أفريقيا مليئة بالأمثلة.


*كاتب من العراق - العرب
*هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن موقع الأمة برس



مقالات أخرى للكاتب

  • "يا وحدنا" التي كانت تنتظر إيران
  • فلتقتحموا غزة، ولكن خذوا معكم مكبرات صوت
  • أزمة المناخ، آخر الهمّ في العالم العربي






  • كاريكاتير

    إستطلاعات الرأي