فصل آخر في التراجيديا اللبنانية
2020-02-19
رفيق خوري
رفيق خوري

التسوية الرئاسية في لبنان لم تكن استثناء من قاعدة مكرسة بالتجارب، وهي القاعدة التي اختصرها مدير برنامج السياسة الواقعية في جامعة أوهايو راندل شويلر بالقول "أكبر عدو للتحالف هو النجاح".

نجاح الحلف بين روزفلت وتشرشل وستالين في هزيمة هتلر قاد إلى الحرب الباردة بين الجبارين الأميركي والسوفياتي، وعندما "ربح الغرب الحرب الباردة سقط مبرر حلف الناتو وإن توسع". وسقوط التسوية الرئاسية بعد ثلاث سنوات بدا نوعاً من "الحتمية التاريخية"، لكن السقوط كان على مراحل في مسار التسوية التي جاءت بالعماد ميشال عون إلى القصر الرئاسي، وأعادت الرئيس سعد الحريري إلى السراي الحكومي. فالتسويات تعيش ما دامت تخدم مصالح أطرافها جميعاً، وعندما يشعر طرف قوي أنه لم يعد في حاجة إلى بعض الأطراف يبدأ المسار الإقصائي.

وهكذا تخلّص الرئيس عون ورئيس "التيار الوطني الحرّ" صهره الوزير جبران باسيل من "تفاهم معراب" مع "القوات اللبنانية" برئاسة الدكتور سمير جعجع، والذي كان محطة إجبارية للوصول إلى التسوية، وفي المقابل، توسعت الشراكة بين الحريري وباسيل في مفاصل السلطة، ثم جاء الدور على الحريري و"تيار المستقبل" والطرف غير المباشر في التسوية رئيس "الحزب التقدمي الاشتراكي" الزعيم الدرزي وليد جنبلاط. والصامد الباقي هو "تفاهم مار مخايل" عام 2016 بين "التيار الوطني الحر" و"حزب الله" الذي حال دون إجراء انتخابات رئاسية على مدى عامين ونصف العام من الشغور الرئاسي حتى فرض مرشحه الوحيد العماد عون.

لكن سقوط التسوية لم يأتِ في مرحلة مريحة بل في مرحلة صعبة جداً، مرحلة الاقتراب من سقوط البلد، إذ "خطر السقوط ليس وهماً" كما اعترف رئيس الحكومة الجديدة حسان دياب في جلسة الثقة.

فالأزمة عميقة نقدياً ومادياً واقتصادياً وسياسياً واجتماعياً ووطنياً، وهي أكبر من أهل السلطة والمعارضة معاً. وهم كانوا شركاء ويتحملون بنسب متفاوتة المسؤولية عن وصول البلد إلى هاوية الأزمة. فما الذي تستطيع فعله حكومة البديل من اللاحكومة برئاسة دياب؟ حكومة جاءت بلا خطة لأن أعضاءها فوجئوا باختيارهم من جانب الأقوياء. حكومة أنكرت أصلها مدعية أنها حكومة التجاوب مع الثورة الشعبية السلمية التي انطلقت منذ 17 أكتوبر (تشرين الأول) 2019، في حين أنها الحكومة التي جاء بها الثنائي الشيعي و"التيار الوطني الحر"، والغالب عليها أنها حكومة "حزب الله". وحكومة أنكرها أهلها: "حزب الله" قال بلسان رئيس كتلته النيابية محمد رعد أنها "ليست على صورة فريقنا السياسي"، وجبران باسيل هدد بإسقاطها إذا فشلت، والرئيس نبيه بري انتقد تبنيها خطة وزراء "التيار الوطني الحر" الفاشلة على مدى 10 سنين في موضوع الكهرباء.

ومن الصعب على حكومة يقف أصحابها على أرض "محور الممانعة" بقيادة إيران، بصرف النظر عن نيات أعضائها، أن تنجح في التحايل المزدوج، التحايل على الثورة الشعبية السلمية التي صوتت بأقدامها... لا ثقة، والتحايل على العرب والغرب بحديث "النأي بالنفس"، فكل شيء معروف ومكشوف، الأزمة والحلول.

رئيس الحكومة اعترف أن "التحديات كارثية والقدرة على تجاوزها هشة، وعبور المرحلة العصيبة أقرب إلى المستحيل من دون قوة دفع خارجية بالإضافة إلى القوة الداخلية". ومواقف العرب والغرب يختصرها بيان "مجموعة الدعم الدولية للبنان"... دعوة إلى اتخاذ مجموعة من التدابير والإصلاحات الملموسة وذات الصدقية بسرعة، وبينها، "استعادة الاستقرار الاقتصادي وصدقية القطاع المالي ومراجعة موازنة 2020 بشكل نقدي يضمن الاستدامة. وتنفيذ الإصلاحات القطاعية الرئيسة مثل قطاع الكهرباء وإصلاح المؤسسات التابعة للدولة".

والمعادلات واضحة... لا سبيل للخروج من هاوية الأزمة من دون مساعدات العرب والغرب. لا مساعدات من دون إصلاحات "جريئة وعميقة". ولا إصلاحات بالمعنى المطلوب لأنها تعني نهاية الامتيازات المالية وغير المالية للنافذين في التركيبة السياسية والتركيبة المصرفية. والمشكلة واضحة، في السنوات الماضية كان الوضع في منتصف الطريق الانحداري بحيث تمكّن النافذون من استمرار العيش على الأزمات والربح منها، وبالتالي من الجمع بين الاقتراض والفساد والهدر وتقاسم الحصص في المشاريع والسطو على المال العام. اليوم صرنا في عمق الهاوية. ولا قدرة على الاستمرار، لأن الدين العام سيصل عام 2023 إلى 127 مليار دولار، وخدمة الدين وحدها إلى 10.8 مليار دولار.

ولا أحد يتوقع أن يرى الرئيس حسان دياب يمارس نصيحة رئيس الوزراء البريطاني غلادستون "أول شيء مهم لرئيس الوزراء أن يكون جزّاراً جيداً". ولا أحد يجهل، إذا استمر التجاهل والعناد، نهاية التراجيديا اللبنانية.

 

*كاتب لبناني



مقالات أخرى للكاتب

  • صراع غير متكافئ على روح لبنان
  • "الربيع العربي".. ما قبل وما بعد    
  • زمن الذكاء الاصطناعي: خطورة وحش آلي





  • كاريكاتير

    إستطلاعات الرأي