على برلين التوقف عن الاعتذار والدفاع عن تاريخها مع موسكو
2022-11-03
ماري ديجيفسكي
ماري ديجيفسكي

ربما كانت امملكة المتحدة قد تحولت إلى مادة للتهكم والسخرية على الصعيد الدولي في الأسابيع الأخيرة، بسبب إطاحة رئيسة الوزراء التي ضربت الرقم القياسي لأقصر ولاية لرئيس حكومة [في تاريخ بريطانيا] ــ والتي استطاعت على الرغم من ذلك [قصر الولاية القياسية] تحطيم [تقويض] الاقتصاد. لكن مأزقنا يبدو أفضل حالاً مما عليه في ألمانيا. على الأقل، كنا خلال هذا الموضوع برمته تقريباً مجرد أضحوكة، وإن كان ذلك في بعض الأحيان من قبيل الإحساس بالنصر أو الاستعلاء.

ألمانيا هذه الأيام محط انتقاد من قبل كثيرين في الولايات المتحدة الأميركية وأوروبا، حتى أن التفاهم مع فرنسا لم يعد كما كان عليه بين الدولتين سابقاً. المستشار الألماني أولاف شولتز، الذي استلم منصبه منذ قرابة العام، كان قد ذهب إلى العاصمة الفرنسية باريس لتناول طعام الغداء مع الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون هذا الأسبوع، لكنه عاد إلى بلاده من دون أن يعقد مؤتمراً صحافياً مشتركاً معه كما درجت العادة. كل شيء كان جيداً، بحسب الطرفين، ما عدا أن الإشارات التي رشحت تفترض بقوة أن الأمور لا تسير على ما يرام.

إن السبب وراء الانزعاج الألماني قد يمكن تلخيصه بكلمتين اثنتين: أوكرانيا وروسيا. لقد شعرت تلك الدول التي تدعم بحماسة كبيرة أوكرانيا [في مواجهة روسيا] أن ألمانيا لا تعمل بما فيه الكفاية، خصوصاً في مسألة عدم إرسالها مساعدات عسكرية بالشكل والكمية التي من المفترض فيها أن تفعل وهو أمر ضمن إمكاناتها.

إن الاحتجاجات [على التصرفات الألمانية] كانت قد بدأت حتى قبل الاجتياح الروسي، عندما سخر الأوكرانيون من الألمان لتقديمهم فقط خوذات عسكرية دفاعية للجنود، متذرعين بالقيود التي يضعها القانون الألماني على عمليات تصدير الأسلحة.

حالياً، هذه الشكاوى تتمحور حول عدم تحرك ألمانيا بعجالة تعكس حال الطوارئ المطلوبة لمساعدة أوكرانيا، وتحديداً أنها تعيق عملية تصدير الدبابات الحربية إليها. القيادة الألمانية أيضاً متهمة بعدم إظهارها ما يكفي من الدعم لأوكرانيا. ففي ما بدا جلياً كيف أصبح بوريس جونسون [رئيس الوزراء البريطاني السابق] زائراً معتاداً للملجأ الرئاسي المحصن في كييف، انتظر الرئيس الألماني (وهو كان وزيراً سابقاً للخارجية)، فرانك فالتر شتاينماير حتى هذا الأسبوع كي يقوم بركوب القطار الليلي في رحلته من برلين لزيارة كييف. 

المستشار شولتز كان قد قام برحلة واحدة فقط إلى أوكرانيا منذ اندلاع الحرب، وكانت تلك زيارة مشتركة مع الرئيس الفرنسي ماكرون ورئيس الوزراء الإيطالي في حينه ماريو دراغي في يونيو (حزيران) الماضي.

لكن هذا، من شأنه أن يختصر جداً في طرح قصة طويلة ومعقدة. فبعض التعقيدات سببها تاريخ ألمانيا الإشكالي مع أوكرانيا. لكن سبب هذه الانتقادات هو ما يقال حول العلاقة المستجدة بين ألمانيا وروسيا، التي يمكن تلخيصها بالتالي: إلى أي درجة يمكن أن تكون سياسات ألمانيا خلال الثلاثين وربما الستين عاماً الماضية مسؤولة عن انكشاف الأمن الأوروبي بشكل مدمر، إذا لم نقل أيضاً إنها مسؤولة عن الحرب نفسها؟

بعد زيارات قمت بها إلى ألمانيا في الأسابيع الأخيرة، وبعد مشاركتي في بعض المؤتمرات مع مبعوثين من كل أنحاء أوروبا والولايات المتحدة الأميركية، يمكنني أن أقول إنه في الواقع لا يوجد مثل هذا الجدال حول الموضوع. لكن رحى لعبة لوم محتدمة تدور [تحميل مسؤولية وضع سيء]، وتوجه السهام فيها إلى ألمانيا وتصلى نقداً حاداً لا أتذكر أنني شهدت نظيره على امتداد عقود زرت فيها البلاد وكتبت عن شؤونها

طوال نهاية فصل الربيع وحتى دخول فصلي الصيف والخريف، توجب على ألمان من خلفيات عريقة من سياسيين، ودبلوماسيين، وأكاديميين، الجلوس والإنصات فيما كان ممثلون من دول حجمها لا يتعدى جزءاً بسيطاً من حجم ألمانيا وثروتها وإنجازاتها، ينتقدون سجل سياسة ألمانيا الخارجية والإصرار على أنهم وليس ألمانيا كانوا على حق بشكل خاص حيال التهديدات الروسية. 

لطالما كنا نعلم، يقول البولنديون وأبناء دول البلطيق ومن يدعمهم من الدول الغربية، ما هو [نوع القيادة السياسية] التي كنا نتعامل معها في روسيا. لقد حذرناكم في السابق. لكنكم اندفعتم قدماً في إصراركم على إبقاء الحوار مفتوحاً مع موسكو والتجارة معها بشكل يخدم مصالحكم الأنانية فقط. حتى إننا حاولنا أن ننقذكم من أنفسكم، من خلال محاولاتنا وقف مشروع بناء خط أنابيب السيل الشمالي للغاز، Nord Stream 2 . لكنكم لم تنصتوا، واليوم انظروا إلى ما فعلتم.

[ويكمل هؤلاء]: تواجه القارة الأوروبية برمتها اليوم أزمة طاقة بسبب قراركم الاعتماد بشكل أحمق على روسيا. حتى إنكم لم تحاولوا حتى أن تلتزموا الاستثمار بنسبة اثنين في المئة من ناتجكم الوطني على الميزانية الدفاعية، عملاً بما ينص عليه حلف الأطلسي، وذلك على رغم كونكم من أغنى الدول الأوروبية. لقد قللتم من [تقييم الخطر] الذي تشكله سلسلة أفعال عدوانية قام بها فلاديمير بوتين، حتى بعد انتزاعه شبه جزيرة القرم من أوكرانيا في عام 2014، وكل ما قمتم بطرحه في ذلك الوقت لم يتعد نوعاً من عروض التسوية عبر المفاوضات. لقد قرأتم بشكل خاطئ تماماً كل ما كان يجري.

عملية مماثلة لتوجيه اللوم بين الأطراف تجري داخل ألمانيا أيضاً. في المجالس العامة وحتى في الإعلام، كما لو أن هنالك عملية مطاردة وإلقاء لوم ذي طابع أيديولوجي وعُمري يستثمر فيه الصقور وشريحة الشباب، ومن ضمنهم وزيرة الخارجية "أنالينا بيربوك" Annalena Baerbock، بشكل لا يرحم ما يعتبرونه الأخطاء المذلة التي ارتكبها الساسة الشيوخ في البلاد. أنغيلا ميركل التي اعتبرت مسؤولة حكومية دولية [من الطراز الرفيع]، لدى مغادرتها السلطة في ديسمبر (كانون الأول) الماضي، هي حالياً شخصية قد لا يكون لديها أي ثقل في بلادها.

والأكثر من ذلك، إن رد هؤلاء الألمان الذين يتم التشهير بهم، هو قبولهم البقاء جالسين وتحملهم تلقي الضربات [من دون مقاومة]. حتى إن بعضهم قد ذهب إلى أبعد من ذلك من خلال تقديمهم الاعتذارات لأنهم أخطأوا في تقييمهم للأوضاع ولإلحاقهم الضرر والفوضى في العالم. على رغم أنه بدا من النادر أن يتحرر الجيل القديم من الألمان من تقديم الاعتذارات على ما جرى في الحرب العالمية الثانية، نرى الآن الجيل الذي تلا، والجيل الذي جاء من بعده، وهم يشعرون بأنهم مجبرون على الاعتذار من جديد على وقوع حرب أخرى. 

ولكن هل تعلمون شيئاً؟ الاجتياح ليس خطأ الألمان، إنه خطأ روسيا! وأنا بالفعل أتمنى لو أنهم قاموا بالرد للدفاع عن مواقفهم بدلاً من أن يقوموا بالاعتذار أو تقبل الانتقاد فيما هم ملتزمون الصمت بتجهّم. لأن لديهم الحق في أن يدافعوا وهم - جيل الحرب الباردة وجيل الوحدة الألمانية – الوحيدون المخولون للدفاع عن ألمانيا، قبل أن تتجذر هذه النسخة عن تاريخ الحقبة التي تتم إعادة كتابتها حالياً ضدهم.  

بداية، دعونا نعترف بصوابية مواقف أولاف شولتز، والتحول السياسي الشامل الذي بدأه المعروف بـ "زيتونوينديه" Zeitenwende، أو حقبة التحولات، التي أعلنها بعد ثلاثة أيام من بدء الاجتياح الروسي لأوكرانيا. فائتلافه الحكومي علق مباشرة بدء العمل بخط أنابيب غاز السيل الشمالي Nord Stream 2 ، (الذي تعرض بعد ذلك للتخريب دون أن نعرف من المسؤول عن ذلك).

وحتى قبل أن تعلق روسيا عمليات تصدير الغاز إلى ألمانيا، كانت برلين قد قامت بتخفيض حجم وارداتها من الغاز الروسي بنسبة 75 في المئة. كما نجحت في ملء خزاناتها الاحتياطية بالغاز قبل ذلك الوقت، مؤجلة بذلك مخطط إعادة تشغيل محطات توليد الطاقة النووية، والمصانع العاملة بالفحم الحجري لسد الحاجات الوطنية. المستشار شولتز كان قد أعلن أيضاً عن زيادة تاريخية في نسبة الإنفاق الدفاعي.

كل ذلك من الممكن أن يصل إلى حد أن نعتبره عملية إعادة توجيه ضخمة للاقتصاد الألماني وسياسات البلاد الأمنية، التي دفعت إلى توقعات أطلقها كثيرون بأن ألمانيا قد دخلت فترة "الابتعاد عن الحقبة الصناعية" deindustralisation وفترة الشح [في النشاط الاقتصادي عموماً]. ولكن حتى الآن، وحتى خلال حثه الجميع على ضرورة تقديم التضحيات [على المستوى الوطني]، لقد نجح المستشار شولتز في الحصول على دعم الأمة الألمانية حيال مساعيه.

ولا بد أن نعترف هنا أن منتقدي السياسة الألمانية لم يكونوا متساهلين مع المستشار شولتز على رغم هذه السرعة في التحول والتغييرات التي أدخلها. فالمنتقدون يفضلون أن يواصلوا الإسهاب في ما يعتبرونه ماضي ألمانيا وأفعالها السيئة، وحجتهم في ذلك أن رغبة ألمانيا في شراء الطاقة الرخيصة والعيش بهدوء إلى جانب موسكو ــ لم تنعكس أيجاباً ــ بل أدت في الواقع إلى تعريض الأمن الأوروبي للخطر. إن حكم التاريخ سيتطلب بعض الوقت، لكن علينا أن نتساءل ما إذا كانت الحرب الباردة لتنتهي عندما انتهت (بالشكل السلمي كما رأينا) من دون سياسة ألمانيا المثيرة للجدل في حينه والتي عرفت بـ "أوست بوليتيك" Ostpolitik أو سياسة ألمانيا الغربية لتحقيق الانفراج وفق اتفاقية هيلسينكي التي تلت، أو حتى اتفاقيات الحد من التسلح التي وقعت في حقبة الثمانينيات.

عندما سقط جدار برلين، وانهار الاتحاد السوفياتي، هل كان من الخطأ أن تقوم ألمانيا بالسعي من أجل إقامة علاقات مستقرة مع روسيا مستقرة، والقيام بكل ماهو ممكن من أجل تحقيق ذلك؟ ألم يكن ذلك من أجل مصالح دول شرق ووسط أوروبا أيضاً؟ وألم يكن ذلك التوجه منطقياً ــ ليس فقط بالنسبة إلى ألمانيا، ولكن أيضاً بالنسبة إلى الدول الاوروبية الأخرى ــ لشراء ومواصلة شراء الطاقة الروسية؟

إن الجغرافيا وحدها جعلت من ذلك ترتيباً مفيداً للجانبين، وترتيباً جعل من روسيا تعتمد على الأسواق الأوروبية بنفس الدرجة التي اعتمدت فيها ألمانيا ودول أوروبية أخرى على روسيا. ألمانيا كانت في الواقع أقل اعتماداً على الغاز الروسي مما يروج له، فالغاز لا يشكل إلا ثلث ما تحتاجه ألمانيا من الطاقة، والواردات من روسيا تشكل كحد أقصى 55 في المئة من ذلك. ولكن هذا ما كان عليه الوضع في الماضي.

كان ذلك ترتيباً نجح في أن يعود بالفائدة على جميع الأطراف المعنية ــ ولا يزال ممكناً أن يبقى الأمر كذلك بعد انتهاء الحرب على شرط واحد: أن يكون ذلك وفق اتفاق شامل على مستوى أوروبا يضمن من خلاله أمن كافة الأطراف بما في ذلك أمن أوكرانيا وروسيا (وهو الاتفاق نفسه الذي ما انفكت كما رأينا روسيا تطالب بتحقيقه منذ سقوط حائط برلين).

إن الخلاصة من ذلك هي أن لدى ألمانيا الحق في الدفاع عن سياساتها حيال روسيا الممتدة لأكثر من نصف قرن، وعليها أن تعرض دفاعها عن سياساتها تلك. من البؤس أن نرى هذا العدد من الألمان ــ ومن ضمنهم أولئك الذي بذلوا الكثير عبر السنوات الماضية للحفاظ على الأمن في أوروبا ــ يعكفون على قبول توجيه اللوم إليهم بسبب أعمال سيئة لم يرتكبوها. المستشارة الألمانية السابقة أنغيلا ميركل، وأنا سعيدة بأن أقول إنها قد أصبحت أكثر حدة  عندما قالت أخيراً "إذا فشلت المساعي الدبلوماسية، فذلك لا يعني أن ذلك النهج كان خاطئاً".

هذا صحيح - وحتى الفشل الدبلوماسي هو أمر أفضل بكثير من الحرب.

*هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن موقع الأمة برس – اندبندنت عربية-



مقالات أخرى للكاتب

  • مفاجآت قد تكون بانتظار بوتين في الانتخابات الروسية      
  • هل ينجح معارضو ترمب الصامتون في سد طريقه إلى البيت الأبيض؟
  • الحضور الشعبي في جنازة المعارض الروسي نافالني يبعث على الأمل





  • كاريكاتير

    إستطلاعات الرأي