حول دور الولايات المتحدة في العالم
2020-02-12
هال براندز
هال براندز

عاد جون كوينزي آدامز الذي كان رئيساً متواضعاً خلال الفترة من 1825 إلى 1829 ليعيش في مخيلتنا، بعد أن شغل منصب أعظم وزير خارجية لأميركا في عهد الرئيس جيمس مونرو. عاد من خلال نقاشاتنا اليوم حول السياسة الخارجية للولايات المتحدة.
فقد طُرح اسمه كمثال على ضبط النفس والواقعية من قِبل أولئك الذين يسعون إلى تقليص دور الولايات المتحدة العالمي بالتحذير من الخروج «بحثاً عن الوحوش لتدميرها»، في إشارة إلى منتقدي التدخلات العسكرية الأميركية.
الحقيقة أن آدمز لم يكن يوماً مدافعاً عن ضبط النفس الأميركي، والإصرار على ذلك ليس سوى تشويه للنقاش حول السياسة الخارجية من خلال حث الأميركيين على العودة إلى ماضٍ لم يكن موجوداً من الأساس.
فقد ارتبط اسم آدمز من الناحية التاريخية بمحاولات السمو في لحظات خيبة الأمل بدور الولايات المتحدة في العالم. قام دبلوماسي آخر أسيء فهمه، وهو جورج كينان، باستدعاء اسم آدمز في الدفاع عن حرب فيتنام في أواخر الستينات. واليوم عاد الاسم نفسه يتردد عند تأسيس «معهد كوينسي للحكم الرشيد» الذي أُنشئ مؤخراً والذي يدعو إلى إنهاء «الحروب الأميركية التي لا تنتهي»، وإلى تشجيع تبني سياسة خارجية محدودة. وفي سبيل ذلك، يستشهد المعهد مراراً وتكراراً بخطبة يوم الاستقلال الشهيرة التي ألقاها آدمز عام 1821 كتحذير صريح ضد مخاطر التوسع الآيديولوجي.
وأعلن آدمز في ذلك الخطاب أن أميركا لطالما «تمنّت بإخلاص الحرية والاستقلال للجميع»، وأنها «بطل ومدافع عن نفسه فقط». وأنه في حال اتجهت الولايات المتحدة إلى الخارج بحثاً عن الوحوش لتدميرها، فقد «تصبح ديكتاتور العالم»، لكنها «لن تكون سيدة نفسها». ولكي تكسر إدمانها على الحرب والمغامرات الخارجية، يقول المجادلون إن الأمة تحتاج فقط إلى إعادة اكتشاف روح جون كوينسي آدمز الداخلية.
إنه لَجَدلٌ غريب بالنظر إلى سجل الرجل، فلم يكن خطاب الاستقلال تحذيراً ضد الطموح والتوسع الأميركي، بل كان حجة ضد اقتراح سياسة محددة تدعم تمرداً يونانياً ضد الحكم العثماني، اقتراح مفاده أن قلق آدمز سيؤدي إلى استعداء القوى الأوروبية دون داعٍ في وقت حساس، ويحوّل وجهة الولايات المتحدة بعيداً عن المزيد من الأمور الملحّة.
والأهم من ذلك أنه كان مجرد جزء من ميراث دبلوماسي واسع يتميز بالطموح والتعقيد الجريء، والترويج لشكل أميركي واضح ونمط آيديولوجي عميق من الواقعية.
كان آدمز توسعياً ملتزماً منذ الأيام الأولى من حياته الدبلوماسية. كان يعتقد أن مصير الأمن والديمقراطية في الولايات المتحدة مرتبط بإنشاء دولة قوية وموحَّدة تهيمن على الأراضي الشاسعة في الغرب. ويجادل آدمز بأن تحقيق السيادة داخل أميركا الشمالية ضروري لتفادي المصير التعس لأوروبا، حيث تقوم الدول الصغيرة والضعيفة بتسليح نفسها باستمرار ومحاربة بعضها البعض.
كان الاختيار بين «أمة تتعايش مع قارة أميركا الشمالية، أمة قدر لها الله وقدرت لها الطبيعة أن تكون الأكثر اكتظاظاً بالسكان، وأن تكون أقواها بموجب ميثاق اجتماعي واحد»، وبين «وجود عدد لا حصر له من العشائر والقبائل التي لا معنى لها في حرب لا نهاية لها». فالحرية والتوسع يسيران جنباً إلى جنب.
كوزير للخارجية، ركّز آدمز على تأمين هذه الإمبراطورية القارية وكان أهم إنجاز دبلوماسي هو إبرام المعاهدة الدولة مع إسبانيا عام 1819، وكان هذا الاتفاق نتاج قيود تكتيكية حكيمة -أي التراجع عن دعم التمرد في أميركا الجنوبية ضد الحكم الإمبراطوري الإسباني. لكنّه نتج أيضاً عن الإكراه غير الدقيق في صورة تهديدات ضمنية للاستيلاء على فلوريدا الإسبانية، ودعم غزوات أندرو جاكسون العسكرية للأراضي الإسبانية.
كانت النتيجة معاهدة تنازلت بموجبها إسبانيا عن الأراضي الإسبانية الرئيسية في أميركا الشمالية للولايات المتحدة. الأهم هو أن هذه المعاهدات ضمنت الاعتراف بمطالب أميركا بحدود غربية على المحيط الهادئ، مما مهّد الطريق للتوسع عبر القارة وخارجها (كما مهّد الطريق لانتشار العبودية إلى الغرب الأميركي، وهو ما ندم عليه آدمز).
كان ذلك الأمر مضاعفاً بالنسبة إلى إنجاز آدمز الدبلوماسي الرئيسي الآخر، فقد قدم ما عُرف بـ«مبدأ مونرو» الذي صدر عام 1823 تأكيداً لأن أميركا لن تتدخل سياسياً في شؤون أوروبا. لكنها تقدمت أيضاً بالفكرة الراديكالية أن الولايات المتحدة لن تتسامح مع الجهود الأوروبية لإنشاء مستعمرات جديدة في نصف الكرة الغربي، أو مع إعادة إخضاع الدول التي أطاحت الحكم الإسباني.
كان ذلك تأكيداً مذهلاً للسيادة الأميركية، وكان الأمر أكثر جرأة، لأن آدمز أصرَّ على الإدلاء بهذا التصريح من جانب واحد، وليس بالتنسيق مع البريطانيين الذين كانوا مهتمين أيضاً باستقلال دول أميركا الجنوبية الجديدة.
جادل آدمز بأن أميركا ستعمل بشكل أفضل «لتوضيح مبادئنا بشكل صريح... بدلاً من المجيء إليها لاستخدامها كقارب للركاب في أعقاب الحرب البريطانية». وهنا يشهد آدامز أيضاً بالصلة العميقة بين القيم الأميركية والمصالح الأميركية، بالقول إن الولايات المتحدة لديها مصلحة حيوية في الإبقاء على الأنظمة الاستبدادية (الملكية) بعيداً قدر الإمكان عن شواطئها. فقد كتب أنه كان من المستحيل أن تقوم الحكومات الأوروبية «بتوسيع نظامها السياسي ليشمل أي جزء» من نصف الكرة الغربي «دون تعريض سلامنا ورفاهتنا للخطر».
كان ذلك بالفعل شكلاً من أشكال ما تسمى اليوم «الواقعية». لكنها كانت واقعية أميركية جوهرية، والمقصود تأكيد أن الحكومة الأميركية تُعنى بالشؤون العالمية، وأن الأنظمة الاستبدادية القوية تهدد بطبيعتها جمهورية ديمقراطية، وأن الولايات المتحدة ستكون أكثر أمناً وتأثيراً إذا أحاطت بها دول ليبرالية نسبياً.
ما أهمية ما ذكره وفعله آدمز قبل 200 عام؟ الإجابة هي لأن سوء الفهم المشترك لدور هذا الرجل يسهم في سوء فهم أكبر لما كانت عليه السياسة الخارجية الأميركية في الماضي، وما يجب أن تكون عليه في المستقبل.
كثيراً ما يزعم المدافعون عن السياسة الخارجية المقيدة بحدة أنهم يدعون ببساطة إلى العودة إلى التقليد الأميركي الذي تم اختباره منذ زمن طويل وهو عدم التدخل والمشاركة المحدودة مع العالم الخارجي. فهم يجادلون بأن آدمز كان ممثلاً لفن حكم أكثر واقعية فقدناه وسط هوس أميركا المزعوم بإسقاط نفوذها وقيمها خارج حدودها.
إن الكشف عن الإرث الفعلي لجون كوينسي آدمز قد يجعل المرء يفكر بطريقة مختلفة. فهو يذكّرنا بأن أميركا كانت منذ فترة طويلة دولة بالغة الطموح، طموحة لحد العدوانية. ولطالما كانت سياستها الخارجية مصدر إزعاج للأنظمة الاستبدادية لأنها كانت مدفوعة دائماً بمزيج قوي من القيم الديمقراطية والحسابات الجيوسياسية.
إن الماضي الذي يرغب العديد من أنصار ضبط النفس في العودة إليه لم يكن سوى خيال، ولم يكن واقعاً بأي حال. إن فهم آدمز بطريقة صحيحة هو السبيل لفهم حقيقة أميركا كأمة بين الأمم.

 

* نقلا عن "الشرق الأوسط"



مقالات أخرى للكاتب

  • صورة الوجود الأميركي في الخارج





  • كاريكاتير

    إستطلاعات الرأي