بريطانيا: حس المسؤولية واستمرار المؤسسات
2022-09-24
جيفري كمب
جيفري كمب

ما الذي يفسّر رد الفعل العالمي الاستثنائي على وفاة الملكة إليزابيث الثانية وجنازتها في التاسع عشر من سبتمبر الجاري؟

الواقع أن مواضيع عديدة نوقشت خلال الأسبوعين الماضيين، ومن ذلك بقاؤها سبعين عاماً على العرش، وكونها رئيسة دولة نشطة ظلت تمارس مهامها حتى قبل يومين فقط من وفاتها عن 96 عاماً.

كانت إليزابيث الثانية مسافرةً عالميةً تولي اهتماماً خاصاً لدول الكومنولث التي تتألف من مستعمرات الإمبراطورية البريطانية السابقة بشكل أساسي. كما كانت أماً حاكمةً شهيرةً بسبب المحن والمتاعب التي واجهتها مع أبنائها وشقيقتها الأميرة مارغريت، وهي محن ومتاعب شكّلت غذاءً تقتات منه وسائل الإعلام العالمية، لاسيما الصحافة الشعبية المهتمة بأخبار المشاهير، والتي كانت تنشر بشكل يومي تقريباً قصص القصر وأخباره.

غير أن تدفق مشاعر التعاطف والإعجاب من كل أنحاء العالَم، ومن ملايين الأشخاص في الشوارع الذين خرجوا للتعبير عن حزنهم، وصفوف المعزّين التي تمتد على طول خمسة أميال في صمت، تنتظر لساعات عدة من أجل إلقاء نظرة على نعشها.. كل ذلك كان معبِّراً عن شيء مختلف تماماً، شيء فريد من نوعه، ربما لن نراه مرة أخرى. أحد التفسيرات البسيطة لذلك هو أنه في زمن بات يتسم بالانقسام الشديد في المجتمع الدولي وبالاضطرابات الداخلية المضرَّة أيضاً في العديد من البلدان، كانت الملكة ترمز للنظام والاستقرار والاستمرارية ولمؤسسة بدا أنها ناجحة على الرغم من التحديات الكثيرة.

وفي وقت ما فتئ يقلّ فيه منسوب التقدير والاحترام للسياسيين والشركات والأنظمة القانونية والفنانين ورواد الأعمال، كانت الملكة تمثِّل، بالنسبة للكثيرين، امرأةً ذاتَ مهابة وجِدٍّ وحكمة قادت بلادها بكل تفانٍ طوال حياتها. والأكيد أن الملكة إليزابيث كان لها منتقدوها، ويعتقد أولئك الذين تراودهم ميول جمهورية أن وفاتَها ستعني أخيراً نهايةَ الملكية في بريطانيا! قد يأتي المستقبل بتغييرات مهمة في حكم بريطانيا، لكن هل ستكون إلى الأحسن؟

الواقع أن الجنازة نفسها كانت عرضاً لافتاً للفعالية والتخطيط والدقة والفخامة والتقاليد والاستمرارية الهادئة واحترام المؤسسات. وفي وقت باتت توصف فيه الانتخابات، إذا ما أُجريت، بأنها «مزورة» أو «مسروقة»، فإن السهولة التي أصبح بها أكبر أبناء الملكة تشارلز ملكاً حال وفاتها تمنح شعوراً مختلفاً بالإيجابية، ولاسيما بالنظر إلى الفوضى التي تعقب في كثير من الأحيان تغيّر القيادة في العديد من البلدان ومثلما أظهرت ذلك بوضوح انتخابات 2020 في الولايات المتحدة. في معظم المجتمعات، يُعتبر النظام شرطاً أساسياً للحكم.

والنظام يتطلب مؤسسات فعّالة تضمن حدوث التغيير بشكل سلمي وهادئ. وتُعتبر المؤسسات القانونية التي تحظى باحترام الجمهور أساس التغيير السلمي والهادئ. في بعض المجتمعات، تسهر المؤسسة العسكرية والأمنية على التغيير المنظم. أما البديل فهو الفوضى أو العنف. وتحدث معظم الثورات لأن الوضع القائم يصبح غير مقبول بالنسبة لكثير من الناس في بلدهم.

والواقع أن ما يقلق كثير من الأميركيين بشأن المزاج السياسي في البلاد حالياً هو أن المؤسسات الفعّالة والموثوقة، التي ضمنت دائماً الانتقال السلمي للسلطة، تم تحدِّيها عقب الانتخابات الأخيرة، وبطريقة لم يُرَ لها مثيل منذ الحرب الأهلية التي اندلعت في عام 1862. واليوم، باتت حتى المحكمة العليا ممقوتةً من قبل كثير من الأميركيين، بدعوى أنها منحازة أيديولوجياً. وغني عن البيان أن ضعف المؤسسات وانعدام الثقة فيها يقوِّض أسس أي نظام ديمقراطي.

وخلاصة القول هي أن ما حدث في بريطانيا خلال الأسبوعين الماضيين كان فريداً من نواحٍ عدة. وبالنسبة لكثير من الأميركيين، كان حس النظام والاستمرارية الذي رافق اعتلاءَ الملك الجديد العرشَ مؤشراً على أن المؤسسات الديمقراطية يمكن أن تكون ناجحةً وفعالة، وأن الملكية الدستورية لا تعيق السلطة النهائية للشعب في اختيار حكومته. ولا شك في أن الانتقال السلس لسلطة رئيس الوزراء البريطاني والملكة إلى خلَفيْهما، في سبتمبر 2022، سيتم تذكّره باعتباره إنجازاً كبيراً.

*هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن موقع الأمة برس – الاتحاد-



مقالات أخرى للكاتب

  • القوة الأميركية بعد «عاصفة الصحراء»
  • نهر نهاية العالَم الجليدي
  • دراما الانتخابات الأميركية





  • كاريكاتير

    إستطلاعات الرأي