شديد التطير ..عودة جاك أتالي: عماء الديمقراطيات في 6 مراحل
2022-07-14
 صبحي حديدي
صبحي حديدي

اختار الكاتب والاقتصادي الفرنسي جاك أتالي لوحة الرسام الإيطالي جوليو رومانو «سقوط العمالقة» 1534، كي ترافق مقالته «نحو العماء، في 6 مراحل» التي نشرها على مدونته الشخصية مطلع تموز (يوليو) الجاري؛ ويفتتحها بالقول: «المرء سوف يكون آخر العميان إذا لم يبصر أنّ بنية المؤسسات الديمقراطية ذاتها تتكسّر في العديد من البلدان، خاصة الغنية منها». مثاله الأوّل هو الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب الذي، بعد أن حشد في أعلى المؤسسات القضائية قضاة مصممين على تقويض المكاسب الديمقراطية الرئيسية خلال الـ60 سنة المنصرمة؛ حاول القيام بانقلاب للبقاء في السلطة، قبل أن يصبح الشخصية المفضلة في الانتخابات الرئاسية المقبلة، و«ضمن مناخ من مواجهة ضارية شرسة».
مثاله الثاني هو ولاية رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون، التي «بدأت في هيئة مهرجان كوميدي، وتنتهي في هيئة مهزلة محزنة، سوف تخرج الديمقراطية منها أشدّ ضعفاً، في غمرة تصفيق صحافة التابلويد وغضب ضحايا البريكست». مثال ثالث من ألمانيا، حيث يجهد تحالف منهك للحفاظ على حياة حكومة تتوالى عليها الهجمات من «دعاة التحالف مع روسيا» ومن أولئك المطالبين بـ«خضوع أكثر للولايات المتحدة». حتى في «هولندا الحكيمة» فإنّ المعالجة المرتبكة للإصلاح الزراعي الهادف إلى التخفيف من انبعاثات غاز الاحتباس الحراري دفعت بجميع المزارعين إلى شوارع الاحتجاج، والإضرابات المتعاقبة. وأمّا في فرنسا فإنّ حكومة الأغلبية النسبية في الجمعية الوطنية، وما تتعرض له من هجوم اليسار واليمين على حدّ سواء، ليست قادرة على وضع خطة واقعية للحكم، وسط نُذُر الإضرابات ومظاهر الغضب حتى قبل انتظار انتهاء عطلة الصيف.
وقبل استعراض، وجيز بالطبع، للمراحل الستّ التي يشخصها أتالي على طريق العماء، أي الفوضى في توصيف آخر؛ ثمة ما يجيز التذكير هنا بشخص الرجل، وتاريخه، وموقعه. فهو، بادئ ذي بدء، ليس بالمراقب العادي لخرائط التأزّم الاقتصادية والجيو- سياسية التي يناقشها، إذْ عمل مستشاراً وكاتم أسرار في حاشية الرئيس الفرنسي الأسبق فرانسوا ميتيران، فوقف على الكثير من خفايا السياسة الدولية خصوصاً في طور انهيار المعسكر الاشتراكي وحرب الخليج الثانية؛ فضلاً عن الأروقة السرّية لذلك التوافق الوطيد بين الاشتراكي ميتيران، واليميني الألماني هلموت كول. وأتالي، ثانياً، اقتصادي بارز، شغل منصب المدير العام لأوّل بنك أوروبي موحّد، وُضع تحت تصرّف وإدارة الاتحاد الأوروبي. وهو، ثالثاً، يهودي الديانة يراقب العالم بذلك النوع الحصيف، والمرتاب والمتنبّه، إلى نُذُر الكارثة؛ كلما ادلهمت السماء أو ثار العصف.
وإذْ يرجّح أنّ دكتاتوريات مثل روسيا والصين، حسب توصيفه، ترى أنّ الزمن يعمل لصالحها، وقد لا تكون مخطئة بالنظر إلى الوقائع الكثيرة الراهنة؛ فإنه يتوصل إلى الخلاصة التالية: «إذا تابعنا المسير هكذا، فإنّ التاريخ يكون قد كُتب في كثير أو قليل: الديمقراطيات تسير حثيثاً نحو العماء، على ستّ مراحل»؛ هي التالية:
ــ فقدان الأمل، إذْ لم يعد الناس يفهمون كيف أنهم، وقد وُعدوا بالرفاه والنمو والتقدم الاجتماعي، يواجهون اليوم الندرة والكوارث الطبيعية وانهيار الرافعة الاجتماعية.
ــ التظاهرات، حيث يتصدرها أولئك الأكثر تضرراً، وقد تبدأ من الفلاحين، ثمّ المطرودين من الحداثة، وخاصة في المناطق المهملة.

ــ خسران الشرعية، بسبب عجز النخب عن تنظيم الاقتصاد والمصالحة مع الأهداف المتناقضة، مما يُفقد الناس الثقة في الساسة والقادة.
ــ سوء التنظيم، ففي هذه الظروف تتعطل الخدمات العامة، ولا تُحترم قواعد الأمان، وتُهجر المشافي والمدارس وتتفوق المشكلات على طاقة قوى الشرطة.
ــ الثورة، إذْ حين تشعر السلطة الديمقراطية أنها عرضة للهجوم على هذا النحو، فإنها تتوتر وتحتقن وترتكب الأخطاء ولا يطول الوقت حتى تفقد السيطرة على الوضع؛ وهنا يحين أوان الثورات، التي ينجح بعضها ويُسفر عن سقوط أنظمة.
ــ الثورة المضادة، ويعرّف أتالي طبيعتها ابتداء من قوى البرجوازية التي تحالفت ذات يوم مع الشعب للتخلص من النخب التي كانت قد خلقتها بنفسها.
ليس هنا المقام المناسب لمناقشة أفكار أتالي، خاصة نزوعه إلى طرائق في التعميم تمزج، عن سابق قصد، بين الديمقراطية كصيغة في الحكم عموماً، وبين الأنظمة القائمة في أمريكا أو بريطانيا أو ألمانيا أو هولندا أو فرنسا حيث يسود هذا التطبيق أو ذاك من مفهوم الديمقراطية. وقد يكون عرض أفكاره أكثر جدوى من مساجلته فيها، لا لأيّ سبب يسبق حقيقة أنه يعيد إنتاجها من دون إقرار بأنّ الحياة أثبتت مقادير عالية من بطلان طبعاتها القديمة؛ على غرار أفكار ساقها أتالي قبل 12 سنة، تحت عنوان/ سؤال لا يقلّ انفلاتاً نحو الدراما: هل نسير، جميعاً، نحو الخراب؟ هكذا تساءل، قبل أن يُصدر كتاباً حمل روحية التطيّر ذاتها في العنوان: «هل سينهار كلّ شيء خلال عشر سنوات؟». يومها بلغت طبعة الكتاب الأولى 70 ألف نسخة، ليس لأسباب تخصّ علوّ كعب المؤلف في الاقتصاد السياسي؛ بل لأنّ توقيت نشر الكتاب كان حاسماً تماماً، لجهة التناغم مع حال الرعب العامة، الجَمْعية على نحو أو آخر، إزاء مآزق الاقتصادات الغربية، في المصارف والبورصات، كما في خزائن الدول وديونها العامة.

 

يتناسى أتالي أنّ الكثير من جوهر التأزم/ العماء يخصّ الاجتماع الاقتصادي الفعلي، وحياة البشر اليومية، ومعيش الفئات الفقيرة والوسطى، ومفاعيل البطالة، وانكماش سوق العمل، والغلاء، وعشرات المشكلات الأخرى، الصغرى والكبرى

قبلها بسنوات قليلة، كان أتالي قد اعتبر أنّ السمة الجوهرية السائدة اليوم/ حينذاك هي «انهيار» Crash الحضارة الغربية، وليس «صراع» Clash هذه الحضارة مع سواها؛ في إشارة نقدية واضحة إلى نظرية صمويل هنتنغتون، حول صدام الحضارات. أكثر من هذا، ذهب الرجل إلى حدّ التكهن بأنّ الحضارة الغربية موشكة على الانهيار، وكتب بالحرف: «بالرغم من القناعة السائدة القائلة بأنّ اقتصاد السوق اتحد مع الديمقراطية لتشكيل آلة جبارة تساند وتُطوّر التقدّم الإنساني، فإنّ هاتين القيمتين عاجزتان عن ضمان بقاء أية حضارة إنسانية. إنهما حافلتان بالتناقضات ونقاط الضعف. وإذا لم يسارع الغرب، ثمّ الولايات المتحدة بوصفها قائدة الغرب المعيّنة بقرار ذاتي، إلى الاعتراف بنقائص اقتصاد السوق والديمقراطية وأزماتهما، فإنّ الحضارة الغربية سوف تأخذ في الانحلال التدريجي، ولسوف تدمّر نفسها بنفسها».
أيّ تطيّر هو الأشدّ وطأة، انحلال الحضارة الغربية بالأمس، أم المراحل الستّ للعماء الديمقراطي اليوم؟ الأحرى، بالطبع، إعادة تركيب السؤال بحيث يتفرّع إلى أسئلة من هذا الطراز: ما الفارق، جوهرياً وفي ما يخصّ نظام التقاسم الرأسمالي الراهن، بين أزمات العام 2010 المالية والمصرفية؛ وبين أزمات العام 2022، البادية لتوّها والموشكة على المجيء، جراء الاجتياح الروسي في أوكرانيا وعواصف الطاقة والغذاء وهبوط اليورو بدل نظيره الروبل الروسي؟ وفي هذا الملفّ تحديداً، أي تعادل اليورو مع الدولار مؤخراً، لماذا يسكت أتالي عن ذلك القانون المعروف باسم فريتس بولكشتاين، المفوّض الأوروبي السابق والليبرالي الهولندي الشهير، الذي بشّر المجتمعات الأوروبية بأنّ جميع مؤسسات القطاع العام، في جميع الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي، سوف تُطرح على السوق كبضاعة، أي سوف تدخل بالضبط في ذلك النوع من المنافسة غير المتكافئة مع الاحتكارات العملاقة؟ وهل، عن سابق قصد هنا أيضاً، يتناسى أتالي أنّ الكثير من جوهر التأزم/ العماء يخصّ الاجتماع الاقتصادي الفعلي، وحياة البشر اليومية، ومعيش الفئات الفقيرة والوسطى، ومفاعيل البطالة، وانكماش سوق العمل، والغلاء، وتخبّط أنماط الضمان الاجتماعي، وعشرات المشكلات الأخرى، الصغرى والكبرى؟
وفي خلاصة القول، لماذا يتوجب أن تكون عودة أتالي الأحدث، هذه، مختلفة عن مناسبات سابقة شهدت الإعادة والاستعادة والاستئناف، أكثر مما شهدت الإفادة؟

*كاتب وباحث سوري يقيم في باريس



مقالات أخرى للكاتب

  • نيويورك تايمز: خيانات ما تبقى لهم من ضمائر
  • هويات بلينكن: قاب قوسين من الصهيونية… أم أدنى؟
  • من فييتنام وتشيلي إلى العراق وفلسطين: كيسنجر في مزابل التاريخ





  • كاريكاتير

    إستطلاعات الرأي