الفوضى الحكومية تثبت حاجة المملكة المتحدة إلى دستور مكتوب
2022-07-14
ماري ديجيفسكي
ماري ديجيفسكي

لنتحلَّ بالهدوء جميعاً، لا، لا يمكن اعتبار أن بريطانيا قد تعرضت لاختبار "يشبه ما فعله ترمب في الولايات المتحدة" فعلياً. لا أحد، ولا حتى بوريس جونسون كان يسعى للاستيلاء على السلطة، أو أن يتحدى نتائج الانتخابات، أو أنه حاول التصرف بشكل يخالف الدستور. حتى وقت استقالته وقبل ذلك كان رئيس الوزراء "يلعب وفق أصول اللعبة وقواعدها القانونية". وكل شيء تطور وفق ما يجب أن تؤول إليه الأمور. هل هناك أزمة؟ أي أزمة؟

على هذا المنوال ينظر ما يعرف "بمؤسسة الحكم" إلى تطورات الأحداث الأخيرة. وهي أيضاً بالطبع [تسعى] للدفاع عن جونسون ــ ولكن الأمور تذهب إلى أبعد من كونها تبريرات لرئاسة الوزراء. وهنا، كان اللورد أودونل Lord ODonnell، والذي كان شغل منصب سكرتير الحكومة سابقاً يتحدث يوم الخميس في حلقة برنامج "اليوم"  Todayالذي تبثه هيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي)، وهو أيضاً من نصب نفسه محافظاً على الالتزام بالدستور.

ولدى سؤاله حول رد فعله على ما كان يجري من أحداث [واستقالات وزارية]، أشار اللورد أودونل إلى أن كل ما كان يجري كان "غريباً"، لكن وفيما بدا أنها كانت محاولات "لدفع الأمور إلى أقصى حدودها الدستورية وربما أكثر مما يفترض"، لكنه أقر أنه ــ "وفي نهاية المطاف فإن نظامنا السياسي واضح وإلى حد كبير يتمتع بالصلابة". إذاً، لا، لقد قام بطمأنتنا أنه لا يعتقد أننا كنا نشهد "لحظة ترمبية" في بريطانيا.

ولدى سؤاله من جديد، أثنى اللورد أودونل على بساطة النظام البريطاني، موضحاً بشكل مختصر: أن رئيس الحكومة عليه البقاء في منصبه لأطول فترة ممكنة طالما أنه يستطيع السيطرة على البرلمان (وفي هذه الحالة) على حزب المحافظين، وإن كان لا يستطيع القيام بذلك، ففي تلك الحالة عليه الرحيل.

حسناً، نعم، لكن البلد كان عند تلك النقطة يرتقب تأثير استقالة أكثر من خمسين وزيراً وموظفاً رفيعاً، ومن ضمنهم وزير الخزانة، وطرد الوزير مايكل غوف وهو من كان يعرف بأنه المحرك الرئيس لسياسة جونسون الخاصة "بتنمية الأقاليم المهمشة"، والحكومة بدت عاجزة أساساً عن العمل، فيما كانت إدارات عدة تفتقد وزراء قادرين على تحريك عجلتها. فإذا لم يكن ذلك أزمة دستورية، فأنا لا أدري ماذا يمكن أن تكون عليه الكارثة الدستورية الحقة؟

وقعت عليّ وقع الصدمة فكرة مفادها أن كل ما كان يجري كان وببساطة أمراً مقبولاً، والجميع كان يتوقع منه أن يقوم بالتصرف بشكل لائق بريطانيا ــ وهو ما كان إلى حد ما، ما كان يسعى للقيام به جونسون نفسه ــ الصدمة من مدى الرضا العظيم عن النفس. المؤرخ السير أنتوني سيلدون Anthony Seldon بدا وكأنه كان لديه باع أفضل في فهم حقيقة الواقع والأوضاع عندما قال إنه لم يحصل أن شهدت رئاسة الحكومة على مدى ثلاثمئة عام الماضية "سقوطاً نارياً بهذا الشكل العلني والدراماتيكي كما راينا على مدى اليومين الماضيين. لم يسبق أن كان السقوط مهيناً إلى هذا الحد، ومؤذٍ إلى هذا الحد ليس بالنسبة لرئيس الحكومة فقط، ولكن بالنسبة للبلاد أيضاً".

بالطبع، لكن الواقع هو أن بوريس جونسون قد تم ليّ ذراعه في النهاية لإجباره على إعلان رحيله، ويجب ألا نعتبر ذلك، كما يراه كثيرون أصلاً في أوساط بريطانية مختلفة أنه دليل على نجاعة عمل دستورنا غير المكتوب. فهي كانت أحداث وإن دلت على شيء يذكر، فهي تدل على أن اعتمادنا المستمر على طريقتنا القديمة في إدارة مثل هذه الأمور ــ أي بالاستناد إلى التقاليد والأعراف و"وزن الكلمة النبيلة"، والالتزام بمستوى معين من التصرفات [المعقولة دائماً] ــ هو في الواقع غير سوي ولا يتلاءم مع عصرنا الحالي. وإذا  كانت الأمور قد سارت على ما يرام هذه المرة، فهي قد لا تسير على ما يرام في المرة المقبلة. ولذلك فقد حان الوقت كي تتوفر لنا قوانين حقيقية ومدونة تعمل على تنظيم كيفية عمل الحكومة.

آه، أجل، لكن ــ ويمكن للبعض أن يعترضوا هنا ــ إن الدستور المكتوب لا يعتبر ضمانة بحد ذاتها لأي شيء بما فيها حماية الديمقراطية: أدعوكم هنا للنظر إلى ما جرى في الولايات المتحدة الأميركية. ألم نشهد قيام رئيس، هزم في الانتخابات، ثم حاول عن طريق العنف البقاء في منصبه، وهو حاول حتى تزوير نتائج انتخابات جرت بشكل ديمقراطي؟ يظهر ذلك بوضوح كيف يمكن أن يلجأ شخص واحد يتمتع بالقدرة ومدفوعاً بغروره، وأيضاً الطموح وإيمان في غير محله أول أي سبب آخر إلى أن يطيح بالقوانين هناك [في أميركا] أو حتى هنا، وربما بسهولة أكبر ويتسبب في تداعيات ودمار أوسع وأكبر.

أليس ذلك ما يبرز في جلسات الاستماع للجنة مجلس النواب الخاصة الأميركية، التي تحقق حالياً بأحداث السادس من يناير (كانون الثاني) 2021 في مبنى الكابيتول، ومن كثب لحظة بلحظة؟ وألم يكن الاتهام الموجه إلى بوريس جونسون أيضاً بأنه يحاول التمسك بالسلطة بكل الوسائل المتاحة متحدياً بذلك الأعراف الدستورية بشكل يدفع إلى عقد المقارنات بين تصرفات جونسون وتصرفات ترمب ــ ولذلك وصف كثيرون ما يجري بأنه "لحظة جونسون الترمبية" Trumpian moment؟

ربما هناك، أو لطالما كان هناك تشابه بين جونسون وترمب من خلال غرائزهم السياسية، وربما أكثر من ذلك هناك تشابه في نظرتهم حيال ما يعتبرونه خصوصيتهم. ويجب ألا نجادل لذلك بأن النظام الدستوري الأميركي قد خلا من أي ترتيبات دفاعية تحمي من انتهاكات يرتكبها أفراد مثل ترمب، أو أن نعتقد أن النظام الديمقراطي الأقل رسمية في المملكة المتحدة هو إلى درجة ما أضعف من النظام في الولايات المتحدة، ويبدو لي ذلك محاولة لاستخراج الاستنتاجات المغلوطة على وجه التحديد.

لطالما بدا لي أن كثيراً من الأميركيين، خصوصاً من حاز منهم مستوى تعليمياً عالياً، والذين يحسبون على التيار الديمقراطي، هم يستخفون أكثر من غيرهم بقيمة [وزن] الديمقراطية الأميركية. إن الدستور الأميركي واجه وبقوة الظروف [صمد أمامها]، وتحديداً الحادثتين "المتطرفتين" اللتين شهدت على تطوراتهما عن قرب: فترة ترمب الرئاسية، وأزمة النتائج المتقاربة للغاية التي حدثت في انتخابات عام 2000 الرئاسية. إن نظام التوازن بين دوائر السلطة الأميركية checks and balances كان فعالاً، وقد نجح الإطار الدستوري الذي يعود إلى القرن الثامن عشر في توفير دفاع ناجح عن الديمقراطية [الأميركية].

نقاط ضعف أخرى تم الكشف عنها في ذلك السياق. لقد نجح أنصار الرئيس ترمب في خرق أمن مبنى الكابيتول إلى حد ما. نتيجة الانتخابات "المتقاربة جداً" [في فلوريدا] تحولت إلى مادة للجدال ببساطة لأن عمل ماكينات التصويت التابعة لولاية فلوريدا لم تسمح بإعادة فرز كل الأصوات، لكن كل ذلك لا يمكن اعتباره نقاط ضعف تتعلق بالدستور، وأدى الدستور في تلك الحالتين دوراً يحسب له كآخر خط للدفاع عن الديمقراطية.      

إن سلطة ترمب كرئيس كانت في الواقع، قد تم تقييدها بفاعلية من قوة التوازن التي ركزها الدستور في المحاكم، والمؤسسات التشريعية (أي الكونغرس) والشعب (من خلال منحهم حق التصويت، والتظاهر الاحتجاجي). محاولة "الانقلاب" التي قام بها ترمب فشلت ــ وإذا  كان يمكن اعتبار ذلك انقلاباً، وهو ما أشكك فيه شخصياً ــ هو دليل على فاعلية الحماية التي يوفرها الدستور وفاعلية جلسات التحقيق التي تتواصل حالياً بخصوص ما جرى في السادس من يناير (كانون الثاني) [في الكابيتول].

ما تلا حكم المحكمة العليا الأميركية الأخير والذي عكس مفاعيل قانون "رو ضد وايد"  Roe v Wade التاريخي، وأعاد عملياً نقل القرار حول الحق في الإجهاض ليتم البت فيه على مستوى الولايات بشكل فردي ــ سيليه بشكل مؤكد معارك قانونية مقبلة من دون شك، لكن الحكم سيتم تحديه على مستوى الولايات، وفي غرف الكونغرس وحتى في البيت الأبيض نفسه. وهذا ما يجب أن تقوم عليه الأمور في الدول الدستورية.

إن زيادة المرونة الموجودة في نظام الحكم الخاص بالمملكة المتحدة ــ مع تراجع تأثير الأعراف التقليدية "النبيلة" التي كانت أساس الحكم – تبرز ضرورة كتابة القوانين الناظمة للحياة السياسية لتحل مكان القوانين والأعراف المتوارثة، والتي نعمل وفقها في أيامنا هذه. إن محاولة بوريس جونسون تعليق عمل البرلمان المثير للجدل عام 2019 مثلاً، كان قد اعتبر عملاً غير مشروع من قبل المحكمة العليا البريطانية ــ وهي مؤسسة جديدة تلعب دور المحكمة الدستورية من وقت لآخر، وإن كانت وعلى عكس الدول حيث توجد محكمة من هذا النوع، فإننا في بريطانيا لا نملك دستوراً مكتوباً [مدوناً].

ثم ربما هناك السؤال الذي يطرح نفسه، وهو يتعلق بمصدر السلطات الخاصة برئيس الحكومة. وفي مسعاه للحفاظ على وظيفته تطرق جونسون للحديث عن "التفويض" الذي يملكه، لكن ــ وكما أشار منتقدوه ــ فإنه لا يملك تفويضاً شخصياً، إن التفويض منح لحزبه للقيام بمهمة الحكم، بعد تحقيق الحزب انتصاراً انتخابياً حاسماً، وهو كان لديه تفويض لقيادة الحزب، بعد أن انتخب من خلال آلية انتخاب حزبية داخلية لخلافة رئيسة الوزراء تيريزا ماي، وكان في الماضي القريب قد نجح للتو في كسب تصويت على الثقة حول زعامته وصوت عليه نواب الحزب، ولكن هل يصح أن تكون لنواب الحزب في البرلمان الحق في الإطاحة ليس فقط بزعيم الحزب ولكن أيضاً برئيس الوزراء، والذي يتمتع حزبه بتفويض انتخابي؟

أحد أعضاء مجلس اللوردات التابعين لحزب العمال اللورد وود Lord Wood، كان قد وصف تمسك جونسون "بتفويضه" على أنه "عمل خطير للغاية... وجزء من انتهاك دستوري من قبل رئيس للحكومة يمثل ديمقراطية برلمانية، على أنه بمثابة هذيان يعود لاعتبارات تتعلق بنظام رئاسي"، لكن سلطات رئيس الحكومة قد تحولت مع الوقت إلى قوة تمت شخصنتها، وسيكون من الصعب إعادة عقارب الساعة إلى الوراء في هذا الشأن.

في الوقت الذي تشهد فيه البلاد كثيراً من الخضات السياسية، إن الدولة تدخل من جديد في فترة من الغموض، ومزيد من الجدال حول ما إذا كان بمقدور جونسون البقاء فعلاً حتى انتخاب حزب المحافظين لزعيم جديد، فإن آثار عدم الاستقرار المترتبة على الحكومة جراء المنافسة على زعامة الحزب ووصول رئيس جديد للحكومة من دون تفويض انتخابي، لا يستخف بها.

إن الولايات المتحدة الأميركية قد تكون ربما متورطة في "حربها الثقافية" الداخلية الخاصة بها والبلاد على مشارف انتخابات مجلسي الكونغرس النصفية في نوفمبر المقبل، لكن الأميركيين يمكنهم التعويل على بعض الحماية التي توفرها فصول الدستور، والتي تبدو فعالة إلى حد كبير. ومع التغيرات السياسية والثقافية الماضية بشكل متسارع في المملكة المتحدة، فحري بنا نحن استخلاص الدروس، وليس هم [الأميركيين].

*هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن موقع الأمة برس – اندبندنت عربية-



مقالات أخرى للكاتب

  • مفاجآت قد تكون بانتظار بوتين في الانتخابات الروسية      
  • هل ينجح معارضو ترمب الصامتون في سد طريقه إلى البيت الأبيض؟
  • الحضور الشعبي في جنازة المعارض الروسي نافالني يبعث على الأمل





  • كاريكاتير

    إستطلاعات الرأي