صفعة القرن: الحرب العالمية ضدّ العرب
2020-02-05
واسيني الأعرج
واسيني الأعرج

شيء ما في العالم تسيره قوة تدفع به ليس فقط نحو الحروب المدمرة، ولكن أيضا نحو الهاوية. إسرائيل بمنطقها العدواني الحالي، فتكت بكل إمكانية للسلام حتى ولو كانت مبتورة، وهي القوة الخفية التي تدفع بأمريكا نحو النهايات.

قد يبدو هذا الكلام غير منطقي في ظل التحالفات الكبيرة بينهما. ترامب ونتنياهو هما وجهان لعملة واحدة يحكمها منطق الغطرسة والقوة. جاء الرومان وفتكوا بالعالم في حروب بلا نهاية، وعندما بدأت دوامة الانهيار المتواتر، انهاروا كليا من الداخل قبل أن ينهار العمران الروماني اليقيني كليا، ولم تبق منه اليوم إلا علاماته.

لقد انتهت فترة القطب الأحادي، أو هي في طريقها إلى ذلك. العالم يتغير بسرعة، بغير المنظور الذي وضعه خبراء الدراسات المستقبلية الأمريكيون. نعم، أمريكا هي القوة العظمى اليوم، ولكنها قوة بدأت في التآكل منذ فترة الأزمات المالية والانهيارات، وما الصفقة الأخيرة إلا صورة مصغرة عن هذه الغطرسة التي لن تعطي شيئا في النهاية، لأنها لا تولي أية أهمية للشعوب الأخرى، باحتقار وعنصرية غير مسبوقين.

طبعا، لا قوة اليوم تمنع إسرائيل من تشريد الشعب الفلسطيني، ولكن أيضا لا قوة تمنع الشعب الفلسطيني أن يطور من سبل المقاومة. لا قوة أيضا تحمي أمريكا من الانهيار بوصفها القوة الكبيرة بنيويا. مجيء ترامب إلى سدة الحكم يبين بما لا يدع مجالا للشك أن هذه القوة المتعالية، المنتجة للثقافة والمعرفة، تنتج اليوم العنف في أجلى صوره، وليست الصفقة إلا شكلا من أشكال هذا العنف المسلط على الشعوب الضعيفة التي لن تعمل إلا على تعميق الكراهيات ولا تتيح فرصا أخرى للأجيال المقبلة لتعيش في سلام مأمول، لأن الرؤية قاصرة ومحدودة.

كنت أستمع إلى المناضل صائب عريقات وأنا أتأمل المشهد الفلسطيني ومحيطه الدولي. ما قاله ليس خطيرا فقط، ولكنه يعيدنا إلى أنفسنا. الخطة إسرائيلية وليست أمريكية. أمريكا ليست إلا غطاء عاما لصهيونية زادت ضراوة وغطرسة بعد انهيار كل التوازنات الدولية والعربية.

من منا لا يعرف أن مطامع الحركة الصهيونية كبيرة، ومع ذلك ظل كثير من الحالمين يؤمنون بالحل السلمي كرهان بعيد المدى. لكن، على الرغم من قيمة هذا السلام المؤقت بإنشاء دولة فلسطينية ولدت بلا سلطة حقيقية، فقد ذهب الفلسطينيون إلى أقصى ما يمكن الوصول إليه في مفاوضات أوسلو، قبل أن ترتد إسرائيل على كل شيء، إذ جعلت من أوسلو وسيلة للإجهاز على المقاومة.

إسرائيل لا تتحرك بالدعوات والصدف، ولكن بالتخطيط قصير ومتوسط وبعيد المدى. وليس التدرج في الاستيلاء على فلسطين التاريخية إلا لحظة من لحظات جاءت تباعا بشكل متسارع؟ إنهاك أية قوة عربية مقاومة وعلى رأسها مصر وسوريا والعراق. جُرت مصر إلى كامب ديفيد وحُيدت كليا كقوة يحسب حسابها في الصراع العربي الإسرائيلي، مقابل غوايات صغيرة ليست في النهاية إلا حقا مصريا. ثم كان لا بد من الإجهاز على القوتين المتبقيتين في ظل التكافؤ العسكري (الذي انهار بعد حرب أكتوبر / تشرين الأول لصالح إسرائيل)، العراق وسوريا. بغض النظر عن طبيعة الأنظمة العربية، والأمر هنا لا يهم إسرائيل إلا بالقدر الذي يخدمها.

أدخلت الدول العربية في دوامة الحروب الأهلية بعد إضاءات عابرة للثورات العربية التي تم التحكم فيها وتوجيهها نحو تدمير أسس الدولة وليس الأنظمة، فالأنظمة اليوم هي هي لا شيء فيها تغير. تمّ تحييد مصر، ثم إسقاط سوريا والعراق بشكل دموي وأغرقتا في حرب أهلية لا تنتهي، وحولت العراق إلى مرتع للقتلة المأجورين وشذاذ الآفاق، وإلى مساحة للتقاتل الطائفي أو العرقي أو الديني، وتم فوق هذا كله تدمير الدولة الوطنية التي لم يعد لها وجود بعد هيمنة المحاصصات الطائفية. لم تنج سوريا من ذلك، ولم يبق أمامها إلا قبول ما يفرض عليها، وذلك وفق حسابات وأجندات مسبقة الصنع في إسرائيل وأمريكا وحلفائها في المنطقة العربية.

أليس ما يحدث اليوم يقترب من حرب عالمية ضد العرب؟ ليس كوجود فقط، ولكن أيضا كاحتمال يمكن أن يتغير نحو الأحسن، نظرا للكتلة الماليـــة التي يتوفر عليها في البنوك العالمية التي بدل أن تتحول إلى ورقة ضغط، تتحول اليوم إلى رماد يذهب هباء في بؤر التوتر من خلال سوق الأسلحة التي لن تزيد إلا المزيد من الرماد.

لأول مرة ينشط لوبي السلام بتوافق مع لوبي النفط في أمريكا في منطقة تستوعب الاثنين معا. ثم جاءت صفعة القرن لتلطم الذي ما يزال يأمل في سلام مع دولة جعلت من العنصرية واللاسامية رهانا تاريخيا لقيام أسسها. وإلا كيف نسمي التهجير الفلسطيني من 1948 إلى اليوم؟ والاستعداد لتحويل فلسطينيي الداخل إلى أجانب وأبارتهايد؟ أليس ذلك ممارسة سياسية وأيديولوجية لاسامية؟ العرب ساميون أيضا. نعرف مسبقا أن الصفقة الجديدة ليست إلا نتيجة لصيرورة وليست قرارا مفاجئا، ولن يرفضها العرب، في أحسن الأحوال، إلا بمزيد من الشعارات، وسيجد الفلسطيني نفسه وجها لوجه أمام قدر غير مسبوق: التشريد المقنن حتى لا تصدم الإنسانية الهشة؟ سيصبح عرب الداخل غرباء يعيشون ببطاقات مؤقتة بعد أن تنزع عنهم المواطنة الإسرائيلية. المخطط شديد الخطورة يأخذ بعين الاعتبار عاملين أساسيين: العامل السياسي المتعلق بالمواطنة المكتسبة بقوة الأرض، والعامل الديموغرافي المتزايد الذي يمكنه أن يغير في الميزان السكاني. سيضطر الفلسطيني الذي سرق حقه إلى أن يواجه عاريا قدره الجديد، لأن الأمر لا يتعلق بالأرض وحدها، ولكن بوجوده الكلي. وسنشهد عملية تهجير منظمة نحو دولة الأنفاق الجديدة الناتجة عن صفقة القرن.

لكن هذا كله ليس إلا مشهدا صغيرا لما سيأتي. في غمرة الانشغال بالصفقة، تهيئ إسرائيل نفسها لمزيد من الاحتلال والتوسع بحجة ضمان الأمن، ليشكل غور الأردن، بل الأردن كله، هدفا قادما، بعد أن بدأت في تجريد هذا الأخير من الوصاية الهاشمية على الأماكن الإسلامية المقدسة في القدس. وليس بعيدا، تفكر إسرائيل في الاستحواذ على كل ما يدفع بها اقتصاديا ووجوديا إلى الأمام: النفط العربي. سنفتح أعيننا ذات يوم ليس ببعيد، ونجد أنفسنا أمام إسرائيل غير التي نراها اليوم، بعد أن يصبح النفط والأنهار العربية الكبرى ومخزونات المياه ملكا لإرادتها. يومها يصبح مشروع إسرائيل الكبرى حقيقة وليس كلاما عاما منبعه نظرية المؤامرة التي يُتهم بها كل من فضح آلة الظلم الكبيرة.



مقالات أخرى للكاتب

  • المَرْأة و«الجندر» وألمُ الكتَابَة والاعْتِراف
  • كيف خرجوا من معطف الرئيس؟
  • عزلة حتى التَّلاشي.. وفاة الرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة





  • كاريكاتير

    إستطلاعات الرأي