سباق النمو الاقتصادى والسكان
2022-04-28
عبد المنعم سعيد
عبد المنعم سعيد

كنت من المحظوظين الذين حملتهم طائرة مصر للطيران في الصباح الباكر في يوم من أيام يناير١٩٩٧ من القاهرة إلي أسوان، ومنها حملتنا طائرات هليوكوبتر إلي منطقة توشكي. كانت الجماعة من المفكرين والكتاب والصحفيين والإعلاميين والفنانين ونجوم وكفي من مناح كثيرة. وكانت المناسبة نوعا من الفرح القومي لحضور قيام الرئيس حسني مبارك بوضع حجر الأساس لمشروع توشكي الذي برز فجأة كمشروع قومي متعدد الأبعاد أبرزها زراعة ٥٦٠ ألف فدان تزيد إلى مليون في المستقبل. باتت متاحة فجأة دراسات جرت على المشروع وكلها حملت أخبارا سارة؛ ومازالت من يومها كلمات الراحل كامل زهيري حاضرة وهو يحدثنا بحكمته المعتادة أليس مدهشا أن كل خير في مصر يأتي مرتبطا بماء النيل؟ تعددت المناقشات وقتها حتى هبطنا إلي أرض المشروع، وساعتها ألح علي المشهد مشابها لأراضي القمر وكواكب أخري بعيدة حيث لا يوجد شيء إلا أراض قاحلة. جري الاحتفال يومها في سعادة ميلاد جديد، لم يعكره إلا الخوف من التوقعات المتفائلة التي عاشها جيلنا مع تجربة سد أسوان العالي والذي ساد الظن فيها أنها سوف تحل كل أشكال الفقر والضعف المصرية. ما حدث فعليا أن لحظة انتهاء السد لم تكن ذات اللحظة التي بدأ فيها البناء، فمع عقد من السنوات كانت مصر قد زاد عدد سكانها بحوالي عشرة ملايين إضافية. لم تكن مصر تحتاج مشروعا واحدا، كانت تحتاج عشرات من المشروعات. توشكي في نهاية القرن العشرين كان بداية جديدة على أي حال، ولكن مع مرور الوقت، تواردت انتقادات كثيرة، وصحبه قصص أكثر عما كان غائبا عند الاحتفال، وكما هي العادة ذهب الموضوع بعيدا عن الذاكرة، ولم يقطعه إلا اقتراح إسرائيلي بأن أرض توشكي تصلح لزراعة أنواع نقية من القمح يصلح لأنواع نادرة من الباستا الإيطالية!

أصبحت أخبار توشكي نادرة اللهم إلا من رسالة جاءتني من قارئ ليخبرني فيها بوجود ثلاث بحيرات سميت بحيرات توشكي، وكانت المرة الأولي التي أستخدم فيها خرائط جوجل لكي أري بنفسي على البعد هذه البحيرات التي بدت لي قريبة من المشروع الذي ذهب. ولكن، وشكرا كثيرا لقناة اليوتيوب، ظهرت توشكي مرة أخري محملة ببعث جديد يجري هذه المرة ليس منفردا وإنما كجزء من مشروعات المستقبل والدلتا الجديدة، وبضعة ملايين من الأفدنة التي تمثل نهضة زراعية لم ترها مصر من قبل لا بهذا الكم ولا بهذا الكيف ولا بمثل هذه السرعة. بدا سرا من أسرار المشروع التي أوقفته ولم أسمع عنها من قبل وجود تسعة كيلومترات من حجر الجرانيت التي وقفت في طريق مياه النيل، وجري نسفها بأطنان من الديناميت التي كانت كافية لكي تتدفق مياه النهر المقدسة كمياه الجنة إلي ربوعه. لم يكن المشروع واقفا وحده هذه المرة وإنما وقف شامخا وسط مئات من المشروعات العملاقة الأخرى، ويأتي افتتاحه في الأسبوع الماضي وسط أزمة اقتصادية عالمية عميقة مبشرا بحصاد القمح الذي سوف يضيف لغذاء مصر في وقت عز فيه بفعل الحرب الأوكرانية ومضيفا لاحتياطياتها حتى ما بعد نهاية العام.

لم أكن حاضرا هذه المرة، ولا الأستاذ كامل زهيري وكلماته التي تبقي في العقول، ولم يعد لوادي توشكي شبها مع أراضي القمر. أصبحت الخضرة ذائعة، وأشجار التمر بالملايين، وآلات تنقيط المياه الدائرة مبشرة بتكنولوجيات جديدة. كان هناك جيل جديد من الإعلاميين يبحث مع القيادة السياسية عن حل لمعضلة السباق الجاري بين العمل والمشروعات الجديدة، والزيادة السكانية، في وقت أزمة عالمية كبري عم فيها الغلاء وجاء فيها الغم. هذه الثلاثية المعقدة تختلف كثيرا عن كل ما عرفته مصر من قبل، وهذه المرة فإن مصر وخلال سنوات قليلة شقت طريقها بالفعل. ما نحتاجه هو أن نعرف الحقائق البسيطة عن مصر، ولا بأس من تعقيدها بعد ذلك، لكي نصل إلي الاستنتاجات التي تجلب المليارات. هناك أربع حقائق عن مصر تملك مفتاح غناها وفقرها، أولاها أن مساحتها مليون كيلومتر مربع. وثانيتها أن عدد سكانها الآن أكثر من ١٠٠ مليون نسمة. وثالثتها أنها عاشت لأكثر من سبعة آلاف عام حول نهر النيل الذي باتت مياهه مقدسة لأنها أتت من دموع إيزيس التي تفجرت عند الشلال الأول في أسوان. ورابعتها أنها محاطة بثلاثة آلاف كيلومتر من المياه في البحر الأحمر والأبيض وخليج العقبة والسويس وعدد من البحيرات المتناثرة، وكلها منعزلة عن وادي النيل بصحاري شاسعة. مجمع هذه الحقائق الأربع أنه على عكس ما شاع لدي المصريين فإن العيش حول النهر ربما كان سر أسرار مجد مصر القديمة، ولكنه بعد ثلاثة آلاف عام من المجد فإن النيل فقد الكثير من سحره بعد أن جاء الغزاة، والأخطر تكاثر المصريين حتى غمروا الدلتا والوادي. الكتاب القدامى والمحدثون كتبوا عن الدولة النهرية في مصر التي من ضيقها، بات توزيع الفقر وإدارته جزءا من مهام الحكم والإدارة. فإذا بات كل ذلك معقولا فإن الخلاص المصري لن يكون إلا بالانتقال من النهر إلي البحر، ليس فقط من الناحية الجغرافية، وإنما من الناحية العقلية أيضا. ولما كنا قد حققنا الانتقال الجغرافي بشهادات ما جري في توشكي، ويجري في سيناء، وغيرهما باتساع المحروسة، فإن ما تبقي هو ما ذكرته في مقالات عن تشغيل التغيير الذي جري، وتفعيل دور القطاع الخاص، وجذب الاستثمارات المحلية والأجنبية، وباختصار إدارة أصول لم تعد تنقصها كهرباء ولا غاز ولا موان ولا مطارات. مضاعفة ذلك كله سوف يهزم الزيادة السكانية ويجعلها تتراجع لأن هذا هو ما حدث في كل دول العالم.

*هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن موقع الأمة برس – الأهرام-



مقالات أخرى للكاتب

  • عودة أمريكا؟!
  • النكبة …!
  • فلسطين والتسوية السلمية؟





  • كاريكاتير

    إستطلاعات الرأي