سياسات الحياد الكربوني.. تراجعات بالجملة والإعلام يتجاهل
2021-12-14
أنس الحجي
أنس الحجي

ما حصل من تراجعات في سياسات الحياد الكربوني لم يكن مفاجئاً لكاتب هذا المقال. تجاهل وسائل الإعلام هذه التراجعات، وعدم مساءلة الإعلاميين المسؤولين والشركات لم يكن مفاجئاً أيضاً، بخاصة أن وسائل الإعلام الغربية الكبرى أوقفت نشر أي مقالات عن النفط إلا إذا كانت تتكلم عن انتهاء عصره، كما منعت نشر أي مقالات تتضمن نقداً للسيارات الكهربائية.

صياح وكالة الطاقة الدولية لم يكن مفاجئاً أيضاً. المفاجئ أن محللي أسواق النفط لم يدركوا أثر هذه التراجعات في أسواق النفط والغاز. في ظل هذه التراجعات سيكون الطلب المستقبلي على النفط والغاز أكبر مما هو متوقع حالياً. وعدم تدارك الأمر بسرعة يعني بالضرورة أن أزمة الطاقة المقبلة ستكون أكبر وأعمق وأخطر.

إن أكبر خطأ ارتكبه متطرفو التغير المناخي هو أنهم ظنوا أنهم يحكمون العالم، وأنهم أمام فرصة تاريخية، فتبنوا سياسات بيئية متطرفة نتج عنها أزمات طاقة في أوروبا وآسيا والغرب الأميركي، كما نتج عنها موقف متشدد ضد سياساتهم من قبل الصين والهند وعدد من الدول الأفريقية. اجتماعات مجموعة العشرين ومؤتمر المناخ العالمي "كوب 26" لم يجف حبرها بعد، ونذكر كيف تأخرت البيانات الختامية بسبب الخلاف الشديد إثر رفض الصين والهند وأستراليا السياسات المناخية المتطرفة.

سياسات التغير المناخي تأخذ وقتاً طويلاً للتطبيق، ومحاولة قصرها خلال فترة قصيرة من الزمن تتنافى مع المنطق والعلم، لهذا لا يحاول تطبيقها بهذه السرعة، إلا متطرف أو جاهل.

الخلاف حول الطاقة النووية والغاز

متطرفو التغير المناخي يريدون إلغاء الطاقة النووية والفحم والغاز من قطاع الكهرباء. لكنهم أدركوا الآن، تحت ضغوط كبيرة، أن الطاقة النووية والغاز يجب أن يكونا ضمن سياسات الحياد الكربوني، بعد انقسام الاتحاد الأوروبي وعدم قدرة الدول الأعضاء على التوصل إلى اتفاق. هذا الخلاف، وظهور قبول عام للطاقة النووية والغاز الطبيعي بعد أزمة طاقة خانقة عانتها دول أوروبية عدة، يدل على أنه لم يكن هناك رؤية واضحة لكيفية الوصول إلى الحياد الكربوني على الرغم من أنهم حددوا تاريخ الوصول إليه. وليس أدل على التخبط في هذه السياسات من أزمة الطاقة خلال الصيف المنصرم، وارتفاع أسعار الكهرباء والغاز إلى مستويات قياسية، وإفلاس شركات كهرباء بريطانية عدة.

طاقة الرياح... القاسم المشترك في الأزمة

وعلى الرغم من كل السياسات المناخية المعادية للوقود الأحفوري، عادت بريطانيا إلى الفحم، وعادت السويد إلى النفط. لماذا عادت بريطانيا إلى الفحم؟ بسبب توقف الرياح في بعض الأيام، فتوقف توليد الكهرباء من عنفات الرياح.

لماذا عادت السويد إلى النفط في المرة الأخيرة؟ لمساعدة بولندا التي تنتج الكهرباء من الفحم. المثير في الأمر أن النرويج "الخضراء" عانت نقصاً في إمدادات الكهرباء، فاستوردت الكهرباء المولَّدة من الفحم في بولندا. محطات الفحم هذه توقفت منذ فترة بسبب مشاكل فنية في الشبكة، فإذا توقفت مستقبلاً، كيف سيتم إنقاذ النرويج عندما ينخفض مستوى المياه في السدود أو تتوقف طاقة الرياح؟

تعاني بولندا حالياً نقصاً في إمدادات الكهرباء، لماذا؟ بسبب الشتاء القارس. ولكن بولندا مشهورة بشتائها القارس، ما المشكلة إذاً؟ تقول شركة الكهرباء إن السبب هو توقف الرياح مع موجة البرد القارس، فانخفض توليد الكهرباء من عنفات الرياح بشكل غير متوقع.

كم مرة سمعنا هذه القصة؟ سمعناها في تكساس في فبراير (شباط) الماضي وسمعناها في بريطانيا في بداية سبتمبر (أيلول)، والآن بولندا! المشكلة أن الاتحاد الأوروبي يطالب بولندا بمزيد من مزارع الرياح والتخلص من الفحم.

العداء لمزارع الرياح منتشر في كل أنحاء العالم، وعدد المدن والمناطق التي منعت إنشاء عنفات الرياح يفوق عدد المدن والمناطق المعارضة للتكسير المائي لإنتاج النفط والغاز بأضعاف. هذه المعارضة كانت من ضمن الأسباب التي دفعت الحكومات والشركات إلى بناء عنفات الرياح في البحار.

أقل الدول معاناة من نقص إمدادات الكهرباء هي فرنسا. لماذا؟ لأنها تعتمد على الطاقة النووية بشكل كبير. الآن يطالبها الاتحاد الأوروبي بزيادة دور الطاقة الشمسية والرياح.

وانتقدت وكالة الطاقة الدولية فرنسا بشكل شديد منذ أيام بسبب اعتمادها الكبير على الطاقة النووية وطالبتها بالاستثمار في مزيد من مزارع عنفات الرياح والطاقة الشمسية. فإما أن صناعة الرياح اشترت السياسيين الأوروبيين وقيادة وكالة الطاقة، أو أن طاقة الرياح أصبحت ديناً جديداً لهم ومستعدون أن يدافعوا عنه حتى الموت برداً!

خطوتان إلى الوراء... كربونياً

كما ذُكر سابقاً، تراجع الاتحاد الأوروبي في موضوعي الطاقة النووية والغاز. فها هي ذي بعض الدول تخطط لزيادة عدد المفاعلات النووية، من بينها فرنسا، بينما تقوم دول أخرى بتمديد رخص تشغيل المحطات النووية، أو وقف خطط التخلص منها. ومع تغير الحكومة في برلين، فإنه يُتوقع أن تقوم الحكومة الألمانية الجديدة بتغيير خطط التخلص من الطاقة النووية التي أقرتها حكومة أنغيلا ميركل.

وأصبح واضحاً أن استخدام الغاز بدل الفحم يخفض الانبعاثات، ومن ثم تم قبول الغاز ضمن سياسات الوصول إلى الحياد الكربوني، على الرغم من محاربته في البداية. وعند الحديث عن الغاز، علينا أن نتذكر أن أغلبه يأتي من روسيا.

ولكن هناك تنازلات وتراجعات أخرى. فقد وافق الاتحاد الأوروبي على مطالب الصين والهند المتعلقة بمحطات الكهرباء العاملة بالفحم، وعدم تحديد جدول زمني للتخلص منها، أو تاريخ معين.

أما في مجال السيارات الكهربائية، فبدأت بعض الشركات تتراجع عن قراراتها المتعلقة بالتوقف عن إنتاج سيارات البنزين والديزل عن طريق تأخير موعد التحول إلى إنتاج السيارات الكهربائية بالكامل، أو عن طريق تقسيم الأسواق العالمية: تواريخ متأخرة في بعض الدول، وعدم التوقف عن إنتاج سيارات الديزل والبنزين في دول أخرى، وعلى رأس الشركات التي تراجعت شركة "فولكس واغن"، وعلى رأس الشركات التي رفضت أن تلتزم بأي شيء شركة "دايملر" التي تنتج سيارات المرسيدس.

وما سيساعد شركات السيارات على ذلك ويحفظ ماء وجهها هو:

 1- مشاكل سلسلة الإمدادات ونقص الشرائح الإلكترونية التي أجبرت أغلب الشركات على إغلاق بعض المصانع، أو تخفيض الإنتاج.

2- ارتفاع تكاليف المدخلات، بخاصة المعادن المستخدمة في البطاريات، الأمر الذي أجبر شركات السيارات على زيادة أسعار سياراتها، بما في ذلك "تسلا".

هذا الارتفاع الكبير في أسعار السيارات الكهربائية دليل آخر على تراجع سياسات الحياد الكربوني، لأن كل التقارير المتخصصة كانت تتوقع انخفاضاً مستمراً في أسعار السيارات الكهربائية، حتى اصطدمت بأرض الواقع.

وتحاول إدارة بايدن الآن تقديم مساعدات ضخمة لمشتري السيارات الكهربائية، إلا أنها تواجه معارضة قوية لأسباب عدة، أهمها كبر حجم المساعدات الذي يتنافى مع مبادئ الحزب الجمهوري، ولأن كل هذه الأموال تأتي من الديون، وهذا لا يتوافق مع مبادئ الديمقراطيين المعتدلين.

إلا أن المعارضة الشديدة جاءت أيضاً من فئات مختلفة ومن القطاع الخاص، لأن بايدن يحاول تجيير هذه المساعدات سياسياً قبل الانتخابات المقبلة عن طريق دفعها للسيارات التي تنتجها نقابات العمال فقط، وعادة ما تقوم هذه النقابات بالتصويت لصالح الحزب الديمقراطي، حزب بايدن.

باختصار، أصبح الأمر سياسياً أكثر من أن يكون له علاقة بالتغير المناخي. وهذا يهيئ الجو للجمهوريين لأن ينقضوا هذه القوانين إذا سيطروا على البيوت الثلاثة.

وما زاد الطين بلة هو احتراق بطاريات السيارات الكهربائية بشكل مفاجئ. وعلى الرغم من أن ذلك أجبر شركة "جي أم" على وقف تصنيع السيارة مؤقتاً، وأُجبرت على شراء السيارات من أصحابها الذي خافوا من احتراق منازلهم أو مقرات عملهم، إلا أن احتراق بطاريات "تسلا" أصبح مشهوراً عالمياً، على الرغم من أن العدد أقل بكثير من أعداد سيارة "بولت" التي تنتجها "جي أم". حتى سيارات "فولكس واغن" احترقت، وكان آخرها في هولندا في شهر أغسطس (آب) الماضي.

الخوف من الحريق أجبر أصحاب بعض العقارات على منع أصحاب السيارات الكهربائية من إيقافها في مواقف العمارات، الأمر الذي نتج عنه مشاكل متعددة تدخلت فيها الشرطة، وهناك بعض القضايا في المحاكم الأميركية.

قد يقول قائل إن سيارات البنزين والديزل تحترق أيضاً. هذا صحيح. ولكن احتراق السيارات بسبب البطاريات وبهذه الأعداد يجعلها تختلف عن احتراق سيارات البنزين والديزل، بخاصة أن إطفاء بطاريات الليثيوم يتطلب فرق إطفاء خاصة ومواد معينة مرتفعة التكلفة.

بعد تشجيع الناس على ترك المواصلات التي تستهلك البنزين والديزل، وترحيبها بالتطورات التقنية الكبيرة في مجال البطاريات التي تسهم في تخفيف انبعاثات المواصلات، وتشجيعها على استخدام الدراجات الكهربائية والسكوترز، بدأت بعض الحكومات المحلية تعيد حساباتها بسبب الحرائق التي سببتها بطاريات هذه الدراجات والسكوترز. لهذا تم منعها من المواصلات العامة وأنفاق المترو تماماً في لندن الأسبوع الماضي.

وفي الأسبوع الماضي أيضاً، أصدرت شركة أفيفا للتأمين، وهي شركة عالمية مركزها لندن، تحذيراً قالت فيه إن العام الماضي شهد احتراق منازل عدة بسبب بطاريات الدراجات الكهربائية والسكوترز، وبطاريات السجائر الإلكترونية.

وهناك تراجعات في المزايا المقدمة لمشتري السيارات الكهربائية، حيث بدأت الحكومات تفكر بماذا سيحصل لإيراداتها من ضرائب البنزين والديزل إذا أصبحت كل السيارات كهربائية. وقامت ولايات أميركية عدة وولاية أسترالية بفرض رسوم إضافية على السيارات الكهربائية للتعويض عن ضرائب البنزين. وهناك توجه لفرض ضرائب على عدد الأميال أو الكيلومترات لكل السيارات، لمنع إيرادات الحكومة الضريبية من الانخفاض. حتى النرويج بدأت بتخفيض المزايا، التي لا تقتصر على الدعم المالي فقط، وإنما تمتد إلى خدمات أخرى تتعلق بالإعفاء من رسوم المواقف والطرق، والسماح لأصحاب السيارات الكهربائية باستخدام الطرق السريعة المخصصة للحافلات. وتدرس الحكومة النرويجية الحالية إعادة فرض مجموعة من الضرائب تم إلغاؤها سابقاً لدعم السيارات الكهربائية، كما يُتوقع فرض رسوم جديدة أيضاً.

والتساؤل الذي يفرض نفسه هنا هو أن معظم الزيادة الكبيرة في عدد السيارات الكهربائية في السنوات الثلاث الأخيرة سببه الإعانات الحكومية والمزايا، فماذا سيحدث بعد نحو سبع سنوات من الآن عندما ينتهي العمر الافتراضي للبطاريات، ولا يوجد أي إعانات أو حوافز للسيارات الكهربائية، التي ستظل أكثر كلفة من مثيلاتها من البنزين والديزل؟ وماذا سيحصل إذا استمرت أسعار الكهرباء بالصعود إلى مستويات تاريخية في أوروبا؟

ولا يمكننا أن ننسى مطالبة إدارة بايدن دول "أوبك" بزيادة إنتاج النفط... جاء ذلك مباشرةً بعد الانتهاء من اجتماع قمة المناخ "كوب 26". المثير في الأمر أن الشائع هو أن إدارة بايدن تريد تخفيض أسعار البنزين لتفادي غضب الناخب الأميركي... ماذا سيحصل مستقبلاً عندما تنتشر السيارات الكهربائية تماماً كما يريد بايدن وأتباعه، وارتفعت أسعار الكهرباء؟ عندها لا يمكن لوم "أوبك" أو أي جهة خارجية.

هل سيجبرون شركات الكهرباء على تخفيض الأسعار؟ هل سيحددون أسعار الكهرباء؟ وهل ستفلس شركات الكهرباء؟ المضحك وقتها سيكون أن كل شركات الكهرباء من المفروض أن تكون خضراء تنتج الكهرباء من مصادر الطاقة المتجددة!

على نفسها جنت براقش!

 

*هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن موقع الأمة برس

الاندبندنت عربية



مقالات أخرى للكاتب

  • زيادة واردات النفط في آسيا وأوروبا... هل ترفع أسعاره فوق 90 دولارا؟
  • المستقبل للغاز  
  • كيف تحولت الولايات المتحدة إلى أكبر منتج للنفط والغاز؟





  • كاريكاتير

    إستطلاعات الرأي