التَّجَاوُز الصَّامِت . . . !
2021-10-25
د .نيرمين ماجد
د .نيرمين ماجد

ما أحوجنا أن نتعلم ثقافة الاختلاف لا الخلاف, وأن نتعلم ثقافة الاحتواء لا النفور والجفاء, أعجبتني مقولة الفيلسوف ويليام جيمس: "إن تاريخ الفلسفة هو تاريخ التصادم بين الأمزجة البشرية" لكنه يجب أن يكون تصادم محمود للتلاقي وليس تصادم عميان للخلاف, جميعنا يدرك أن هناك بعض البشر قد آتاه الله عقلا راجحا وبصيرة وفكرا ثاقبا فتجده مبذر في اعطاء الفرص والحكم وقد منحه الله نعمة القبول, والبعض الأخر للأسف يعاني من ضمور وقصور في النظر والفكر والعقل فلا يستطيع إحاطة الموضوع بنظرة شاملة فتجده يقسو وينافق ويطعن بلا هوادة بالناس بدون ذرة رحمة في قلبة, "العيب مش في العيش.. العيب في اللي أكل العيش" جملة قرأتها واستوقفتني وتأملت كثيرا في مفرداتها ومعانيها والوجوه التي قابلتها في حياتي والتي لم تحترم العيش ولا العشرة, ولم تصن العيش والملح , لكن السؤال أين تكمن المشكلة؟ وهل القلوب تحجرت وجفت؟
اختلاف الرأي لا يفسد للود قضية، لان النقاش البناء هو حوار عقول, والمودة هي حوار عواطف, لذلك الخلاف البسيط في وجهات الرأي لا ينهي الود والحب, بل على العكس, الخلافات بعض الأوقات مهمة لكي تظهر مكنونات الناس ولكنها محمودة عندما تنتهي باعتذار وجلسة مصارحة, أما التجاوز والتغافل أعتبره وسيلة لدفن وتراكم المشاكل فوق بعضها البعض, قد تجعل الشخص يقسو رغم لين قلبة ويعتزل وقد يتحول الى شخص انطوائي لا يتحمل النفاق والغباء والتلون, وقد يلجأ للبكاء على أتفه الأمور والأسباب ويبكي في داخله ويحزن ويري انكساراته تتهاوي أمام عينيه ويعيش صراعات وخيبات وطعنات ويكتفي من كل شيء في الحياة وتتبدل معاني كثيرة لديه فتصبح السعادة والتفاؤل مجرد أوهام وسراب فتستقر بقلبه الخيبات ويتجلى بملامحه الانكسارات, ان الضرر النفسي الذي تلحقه الكلمات يستغرق وقت أطول في الشفاء من الضرر الجسدي، فسبحان الذي جعل الكلمة الطيبة في ديننا صدقه, إن أسوأ أنواع الابتلاء في الدنيا أن تبتلي بغليظ الفهم, محدود الادراك, يرى نفسه أفهم وأعلم الخلق وهو أجهلهم.
لقد قيل في المثل الصيني" إنك لا تستطيع أن تمنع طيور الحزن من أن تحلق فوق رأسك، ولكنك تستطيع أن تمنعها من أن تعشش في شعرك ", جميعنا بلا استثناء يوجد لدينا وجع مدفون داخلنا ولا أحد يعلم ما هو وكيف تمر به وكيف تواجهه وتتغلب عليه, منا من عاش فترة صعبة وعاني من لكمات وكلمات, ومنا من أحب بصدق لكنه لم يجد الاحتواء والتقدير, ومنا من حلم بحلم ولم يتحقق, أحلام وأمنيات ومواقف وأشخاص كثيرة قد تمر في حياتنا ونتوجع منها لكنها تعلمنا دروس وعبر, نحن لا نخسر علاقاتنا بكثرة المشاكل والمشاحنات والخلافات بل بتراكم الخيبات التي تميت الروح والقلب وبكثرة التضحيات التي لا يدري عنها أحد ولكنها الأقسى.
نحن بحاجة الي أشخاص أسوياء نفسيا وروحيا وعقليا, أشخاص لا نضطر أن نزين وننمق الكلمات أمامهم وبحضورهم, بل نتكلم بعفوية على سجيتنا حتى ولو كنا لا نخلو من السيئات, أشخاص لا يسيئون ويحللون الكلمات والمواقف على أنها متعمدة تحمل معان وتفسيرات وتأويلات ومن ثم يطلبون منا التبريرات, نحن بحاجة الى أصدقاء لا يتغيرون ولا يتبدلون مع تقلب المزاج والظروف والأحوال مثلما تتبدل الفصول, أشخاص يخافون على أحبابهم من كلمات تخرج من أفواههم فتجرح اصدقائهم بدون قصد, أشخاص يعملون بصمت دون انتظار رد الجميل, فلذلك كونوا حريصين على انتقاء من يليق بقلوبكم وأرواحكم ولا تستهلكوا مشاعر الاخرين بالخطأ فالاحترام فوق كل شيء فوق الصداقة فوق القرابة وفوق الحب أيضا.
هل تخيلت يوما كمية الصراع الذي تكابده يوميا من قسوة الحياة وظروفها فوق تعبك لكي تعيش بأمان وبسلام, تحارب أحزانك بصمت لأنك لا تريد أن تري وتشعر بنظرة الشفقة من أحد, هل تخيلت يوما حجم التعب وأنت تحبس الدمع ولا تذرفه وتواسي وتطبطب على نفسك لكي تحيا حياة آمنه صحية, انا لا أنكر أنه من حقك أن تعيش حزنك بكل تفاصيله لكن لا تبالغ في العتاب والقسوة على نفسك, ولا تعطي الأشياء أكبر من حجمها, وتوقف عن كونك مخذول ومكسور فمن لم يطرق بابك وانت محتاج اليه فلا مرحبا به, وأعلم انه في رحيل البعض حياة وفي ابتعادهم سعادة وفي مسح رسائلهم وأرقامهم وصورهم طمأنينة وفي انقطاعك عنهم سكينة, وادرك جيدا أن لا أحد يعلم كم صبرت وكم تجرعت الويل والألم وحدك وكم كافحت وكم ضحيت وكم ابتليت وكم اختفي بريق عينيك وانطفأ وذبل وكم أصبح جسدك هزيل, لا أحد يعلم كم مرة هدم جدار قلبك وكيف أعدت بناءه مره أخري.
لا أحد يعلم كم من مره اختنقت وسط الحديث وكم من مرة مرضت وعانيت, واعلم انه مسكين من لم يخض وذاق الوجع والالم بحياته لان الخيبات بمثابة الدروس تؤلم وترمم وتنضج ومن ثم تجعلك تضحك على خيباتك, فلا تعطي الأشياء فوق حجمها, فقط صون الود وأحسن الرد وأحفظ الوصال واترك الدنيا تصفي حساباتها.
كل شيء زائل ولن يبقي سوى أثر عملك وتلك الدروس المستخلصة من الألم والوجع الذي مررت به وأحمد الله على نسختك الجديدة الأكثر نضجا والأشد صلابة, واملأ قلبك بالإيمان كي لا يصدأ, ولا تربط نفسك وحبالك بشخص لأنه على قدر الاستناد يأتي السقوط, وتوقع من الجميع كل شيء.. خاصة في الخيبات والطعنات لأن ليس الجميع كما تتمنى وليس الجميع مجبر في أن يكون ما تتمنى!



مقالات أخرى للكاتب

  • لَا تغرك الْعَشَرَة . . . !
  • وَقْت الشِّدَّة . . . !
  • وُدٌّ مَشْرُوطٌ . . .!





  • كاريكاتير

    إستطلاعات الرأي