مع البردوني - عبدالناصر مجلي
2021-08-30
عبدالناصر مجلي
عبدالناصر مجلي

أول مرة ألتقيت فيها بشاعر اليمن العظيم عبدالله البردوني رحمه الله كان عن طريق الصدفة في مكتبة المقحفي في شارع القصر الجمهوري بالعاصمة اليمنية صنعاء وكان برفقة سائقه الخاص ، حيث كان يبحث عن بعض الكتب فتقدمت منه مبهورا لأنها المرة الاولى التي أراه فيها وجها لوجه وعرضت عليه المساعدة فرحب فورا مازحا" نعم اريد المساعدة فكما ترى أنا أعمى" وضحك ، وكنت أحيانا اخطئ في الكتاب أو العنوان فيصححني لكن العجيب في الأمر أنه كان يحدد لي مكان الكتاب بالضبط الى درجة أنني حملقت في وجهه لأتأكد بأنه كفيف فعلا . قضيت معه قرابة الساعة من مكان الى أخر، وأخيرا سألني ما أسم الولد فقلت له وما أدراك يا أستاذ عبدالله بأنني ولد ربما أكون كبير في السن ، فرد سريعا بالقول صوتك يدل بأنك لاتزال يافعا ، فأخبرته بإسمي الأول فقال قل اسمك كاملا وعندما اخبرته رد عليّ بالقول لقد قرأت (ثمان قصص قصيرة جدا) لك في الثورة وقصص اخرى أنت قاص متمكن وخطير ، كانت مفاجأة العمر بالنسبة لي أن يشيد بي وأنا لازلت في بداية الطريق مبدع عالمي بحجم البردوني ، وبقيت أيام وشهور بل ولازلت حتى الان أشعر بالفخر والمجد بشهادة مثل تلك ، وبدون شعور مني احتضنته وقبلته شاكرا له تواضعه معي لكنه رد بصوت عميق وجاد هذه الحقيقة ياعبدالناصر قصصك مختلفة جدا عن السائد انتبه لنفسك جيدا.
المرة الثانية التي التقيت به كانت في بيته عندما ذهبت اليه لأهديه مجموعتي القصصية ( ذات مساء..ذات راقصة ) وكانت أول كتبي المطبوعة وأول مجموعة قصصية في جيل التسعينات لاتفاجئ بأنها موجودة عنده وقد قرأها وأبدى اعجابه بها كاملة وتوقف كثيرا عند قصة (رحلة الى كوكب سافوراس) التي تعتبر من قصص الخيال العلمي وقال كلاما عظيما فيها لن أسهب في سرده حتى لا أبدو مبالغا خصوصا والرجل قد توفاه الله، وقد تعمقت علاقتي به رحمه الله مثل أي أديب شاب في جيلنا لكنه كان يعرفني من صوتي ويسألني عن أحوالي وذات يوم أخبرني ضاحكا بأن المشائخ لم يعودوا حق هنجمة بل قد صاروا قصاصين وشعراء وأدباء وهذا باهر. مع أنني لم أخبره عن أبي أو من أكون في المجتمع لكنه كما هي عادته كان يسأل عمن يتوسم فيهم التميز والموهبة الحقيقية.
مرت الايام وقررت الهجرة الى الولايات المتحدة فشجعني بالقول "على حد علمي أنت أول أديب يمني معروف سيهاجر الى بلاد العم سام" وتمنى لي التوفيق وقال في انتظار الادب المهجري اليمني من أمريكا. كانت لقائاتي معه نادرة لكنها كانت وكأنها تدوم لساعات ليس معي وحدي بل مع جميع الزملاء تقريبا ومع كافة الناس فقد كان رحمه الله رجلا متواضعا وغير متكلف أو متصنع رغم معرفته بحجمه وقدره وشهرته وشجاعته.
عندما عدت بعد حرب 94 الى صنعاء كمراسل لصحيفة القدس العربي التي كان يرأس تحريرها آنذاك الاستاذ عبدالباري عطوان كنت أخطط لزيارته ومحاورته وقد حذرني البعض من ذلك فقد كان مغضوبا عليه في تلك الفترة لكنني أصررت على محاورته الى درجة ان الاستاذ عبدالسلام العنسي رحمه الله نبهني بالقول حاور من شئت حتى علي علي صالح عباد مقبل أمين عام الحزب الاشتراكي لكن البردوني لا على الاقل ليس الان ، لكنني لم اسمع كلامه فغضب مني غضبا شديدا فأخبرته بان حوار مع البردوني يخدمهم ولايضرهم خصوصا بعد انتصارهم فلم يعلق ، وعندما التقيته في الدوحة علن 2002 وهو سفير لليمن هناك اقام مأدبة على شرفي وتناولنا القات في مجلسه هناك وقال لي بالحرف الواحد لقد كانت رؤيتك صحيحة فيما يتعلق بحوارك مع الاستاذ البردوني وقد سرني اعترافه المتأخر .


المهم أجريت الحوار مع البردوني وكان حوارا مدويا في كل مكان لقوته وصراحته وشجاعته مع أنني أختلفت قليلا مع الاستاذ عبدالله البردوني في بعض ماقاله ، فقال لي أحترم رأيك لكنني لن أغير رأي ، فأخبرته بأن ذلك خطر عليه فرد بمقولته التي زلزلتني حى الأعماق : لن أتراجع عن كلامي حتى ولو قتلوني ولن يجرؤوا على ذلك!!
ياله من رد شجاع لانظير له، هناك رأيت البردوني ليس مجرد شاعر ضرير بل ثائر عملاق وشجاع لايهاب ، وكانت وقفته الشجاعة تلك إحدى دروس العمر بالنسبة لي وهي أن لا أخاف من قول الحق مهما كان الثمن باهظا ، وأعترف بان إصراري على قول كلمة الحق الشجاعة قد كلفني الكثير لكنه جعلني أحترم نفسي.
كانت طبيعة البردوني طبيعة المبدع الحقيقي الذي يتابع ابداع الاخرين ويشد من أزرهم ويشجعهم وينصحهم وقد كان معجبا كبيرا بما أكتب وهذا وسام كبير على صدري مدى عمري ولطالما أخبرني بذلك رحمه الله ، وفي الحقيقة أنني كنت محظوظ جدا بهذا الثناء لانه جعلني أواصل الكتابة بقوة وصلابة وعدم الاستسلام رغم كثرة العقبات والمصاعب التي واجهتني ، وقد كان البردوني رحمه الله أمينا معي ومع غيري في نصحه وتوجيهه لأنني كنت أشعر بأنه يشيد بنا ليس من باب المجاملة بل من باب الواجب والمسؤلية كأب تجاه أولاده رحمه الله.
البردوني عملاق يماني لايتكرر مرتين وأشعر بالفخر بأنني اقتربت قليلا من تخومه وتعرفت عليه عن قرب وعرفت لو بنسبة بسطية من هو العملاق الثائر والشاعر والمفكر عبدالله البردوني الانسان اليمني البسيط والكفيف الذي عرفه العالم أجمع وأضاء ببصيرته مالم يقدر عليه الكثير من المبصرين !


*أديب وصحافي يمني أمريكي



مقالات أخرى للكاتب

  • لقد انتصرت غزة ايها الجبناء
  • لو كنت مكان عبدالملك الحوثي - عبدالناصر مجلي
  • رغم حبهم للحرب إلا أن السلام سينتصر رغم أنوفهم





  • كاريكاتير

    إستطلاعات الرأي