النيل نهر دولى
2021-05-04
عبد المنعم سعيد
عبد المنعم سعيد

قد يبدو عنوان المقال كما لو كان نوعًا من ترديد البديهيات المعلومة تاريخيًا لآلاف الأعوام، ولكن الحقيقة هى أن إثيوبيا لا تعتقد فى ذلك ألبتة، والأخطر أنها تؤكد مرارًا وتكرارًا على أن الحال ليس كذلك. وأكثر من ذلك فإن إثيوبيا تحيط هذا الإنكار بكم هائل من الأكاذيب، التى تحيط ما هو بديهى بالضجيج الذى تستخدمه دول أخرى أو جماعات سياسية دولية فى التعامل مع الموضوع بزعم أن ذلك يمثل العدالة والحياد والموضوعية والنظر إلى مصالح جميع الأطراف. ما تقوله إثيوبيا حول فقرها- الذى جاء باستخدام مصر والسودان لمياه النيل أو قولها بأن استناد القاهرة والخرطوم إلى اتفاقيات ١٩٠٢ و١٩٢٩ هو اعتماد على اتفاقيات «استعمارية»- يخالف كل القواعد التى قامت عليها العلاقات الدولية، والتى استندت إليها منظمة الوحدة الإفريقية سابقًا والاتحاد الإفريقى حاليًا، وحدود الدولة الإثيوبية ذاتها فى الماضى والحاضر. القول بأن مصر لم تكن مسؤولة يومًا عن فقر إثيوبيا- ولا كانت ضاغطة على إثيوبيا، التى كانت دومًا دولة مستقلة على مدى ألفين من الأعوام، لم تُحتل فيها أراضيها إلا من قِبَل إيطاليا خلال الفترة من ١٩٣٦ إلى ١٩٤١- يضيع كثيرًا فى مجادلات تستغلها أطراف ثالثة للبحث فى أصول الحجج السياسية أو الأصول التاريخية للوقائع أو الاستغراق فى شرح القواعد القانونية للمسألة. الحقيقة الواضحة، التى لا يمكن الهروب منها، هى أن نهر النيل هو نهر دولى، وكان ذلك منذ اكتمل تكوين كوكب الأرض، حينما مر بأراضى شعوب وقبائل وأمم، وفى العصر الحديث دول. انطلاقًا من هذه البديهية والحقيقة، فإنه لا يحق لأى دولة أن تتحكم فى منابع النهر، ولا أن تقوم بمشروعات تعوق تدفق المياه إلى الدول الأخرى. وفى العصر الحديث هناك أمر مهم يأتى مع «النهر الدولى»، وهو أن هناك دومًا فرصة كبيرة للتعاون الذى يعطى الكثير للدول الواقعة على ضفافه من المنبع إلى المصب.

والحقيقة هى أن العالم عرف فكرة الأنهار الدولية منذ ٢٥٠٠ قبل الميلاد، وكانت حول استغلال المياه فى نهر دجلة، ومنذ عام ٨٠٥ بعد الميلاد هناك ٣٦٠٠ اتفاقية دولية تعلقت بتوزيع المياه واستخدامها بين الأطراف المشاركة التى يحتويها نهر أو بحيرة تشترك فيها أكثر من دولة أو شعب. وبين عامى ١٨٢٠ و٢٠٠٧ جرى توقيع ٤٥٠ اتفاقية دولية خاصة بالأنهار، وقّع منها ١٥٠ معاهدة خلال الخمسين عامًا الأخيرة. وحاليًا فإن هناك ١٤٥ دولة فى العالم تنتمى إلى حوض من أحواض الأنهار الخاضعة للتنظيم من خلال اتفاقيات ومعاهدات. الأمر ليس جديدًا إذن، وهذا التاريخ الطويل للمعاهدات والاتفاقيات لم يضع فقط تاريخًا للقانون الدولى للأنهار، وإنما أيضًا خلق حقوقًا تاريخية للدول والكيانات السياسية المشاركة بما وضع من قواعد رشيدة للعلاقات بين الدول وتعاونها حتى فى أوقات الحروب والمنازعات. وعلى سبيل المثال فإن حوض نهر «الميكونج»، الذى يضم دول تايلاند وفيتنام ولاوس وكمبوديا، تنظم أعماله ومسيرته هيئة نهر الميكونج The Mekong River Commission، وفقًا للقواعد الخاصة بالأنهار المشتركة، دون ادعاء دول المنبع حقوقًا سيادية للسيطرة على الماء تجاه دول المصب، واستمر ذلك دون نقض أثناء حرب فيتنام. وهناك هيئة مماثلة تتعلق بنهر «الإندوز» تنظم العلاقات المائية بين الهند وباكستان The Indus Water Commission. وفى عام ١٩٥٥ جرت تفاهمات بين الأردن وإسرائيل للتعامل المشترك مع مياه نهر الأردن رغم حالة الحرب آنذاك. وتشترك عشر دول أوروبية- هى ألمانيا والنمسا وسلوفاكيا والمجر وكرواتيا وصربيا وبلغاريا ورومانيا ومولدافيا وأوكرانيا- فى المجرى المائى لنهر الدانوب، وفق شبكة من الاتفاقيات التى تنظم عمليات الملاحة وشرب المياه دونما تمييز بين دول المنبع على جبال الألب ودول المصب على بحر قزوين. وتنظم ذلك كله الهيئة الدولية لحماية نهر الدانوب أو The International Commission for the Protection of the Danube River (ICPDR). وينطبق نفس الأمر على نهر الأمازون، حيث توجد منذ عام ١٩٦٠ هيئة للاستغلال الاقتصادى تخص المياه والغابات والزراعة، وتشترك فيها البرازيل وكولومبيا وبيرو وإكوادور وفنزويلا وبوليفيا.

فى كل هذه المعاهدات والاتفاقيات، كانت للدول الواقعة على الأنهار والبحيرات المشتركة «حقوق تاريخية» لا فارق فى ذلك ما بين دول المنبع ودول المرور ودول المصب، وفيها فإن الماء بات تراثًا مشتركًا للإنسان الواقع عليها، والمستفيد منها، وهو فى ذلك مثله مثل الضوء وحركة الشمس والرياح وظواهر الطبيعة الأخرى. ومن هنا ينبغى على الدبلوماسية والاستراتيجية المصرية أن تكون حجر الزاوية فى التعامل مع الموضوع.

هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن الأمة برس



مقالات أخرى للكاتب

  • عودة أمريكا؟!
  • النكبة …!
  • فلسطين والتسوية السلمية؟





  • كاريكاتير

    إستطلاعات الرأي