السودان يتعافى
2021-04-26
مصطفى الفقي
مصطفى الفقي

السودان قطر عربي أفريقي له خصوصية ينفرد بها باعتباره المعبر التاريخي بين القارة السمراء والوطن العربي، فضلاً عن التعددية بين أقاليم ذلك القطر الكبير، فهو بلد دارفور وكردفان وغيرها من المسميات التاريخية التي عاصرت عهود الاستعمار والاستقلال، وظهر اسمه منذ التاريخ المبكر لهذه الدولة التي لعبت دوراً كبيراً في العلاقات الوثيقة مع دولة الشمال مصر، وتأثير ذلك في مفهوم وحدة وادي النيل ووجود بريطانيا شريكاً ثالثاً في التاريخ الواحد لدولتي مصب النيل السودان ومصر. ويتميز السودان بالتنوع الجغرافي والتمايز الإقليمي، خصوصاً قبل انفصال الجنوب عن الشمال إثر صراع طويل في ميادين القتال وقاعات المفاوضات. إن السودان بلد ثري بالموارد الطبيعية، فالأرض خصبة والمياه وفيرة، أو هكذا كانت، والشعب السوداني يتميز بثقافة ترتبط بتاريخه وبمكوناته السكانية وتطورات القوى الوافدة على عاصمته المثلثة الخرطوم، وهو أيضاً بلد الشعراء والرواة بدءًا من التجاني يوسف بشير، شاعراً والطيب صالح، روائياً، وصولاً إلى علماء السودان المعروفين. ولقد قرأت شخصياً في فترة حصولي على الدكتوراه من جامعة لندن، كتاب الدكتور جمال محمد أحمد الذي يعتبر مرجعاً في فرعه وحجة في موضوعه، كما أنني أعجبت بالكثيرين من أشقائنا في السودان، بغض النظر عن توجهاتهم السياسية، وفي مقدمتهم الراحل ذو الحسب والنسب السيد الصادق المهدي الذي كان شخصية دولية وإسلامية وعربية وأفريقية، عبرت حدود البلد إلى المجتمع الدولي كله، كما أن كاتباً مثل الدكتور منصور خالد، بغض النظر عن تقييمنا لتوجهاته السياسية، هو شخصية جديرة بالتأمل، مثيرة للجدل. وقد عرفت من الأشقاء السودانيين أيضاً في الميدان السياسي والدبلوماسي حزمة رائعة يفخر بها العالمان العربي والأفريقي. إنني أتذكر وزير الخارجية الأسبق مصطفى عثمان إسماعيل وآخر سبقه وهو إبراهيم طه أيوب، الذي كان سفيراً للسودان في الهند حينما كنت مستشاراً للسفارة المصرية هناك، والذي أعتزّ بصداقته كثيراً لصفائه ونقائه ووضوح شخصيته. ولقد ربطتني بالسيد الصادق المهدي علاقة طويلة حتى رحل عن عالمنا بسبب وباء كورونا الذي انتزع من البشرية شخصيات مرموقة في ظروف صعبة، وأنا سعيد أن ابنته مريم هي وزيرة خارجية السودان حالياً، وذلك أقل ردّ اعتبار للبيت العريق الذي تنتمي إليه.

هذه مقدمة أردت بها توصيف الأوضاع في السودان من خلال علاقتي الشخصية ومنظور صداقتي ببعض أقطاب ذلك القطر الغالي، الذي يدرك جوهر الديمقراطية الحقيقية ويؤمن بحرية الرأي إيماناً شديداً قبل أن يبتليه الله ببعض الجماعات المتطرفة والجبهات المتشددة، التي حاولت تغيير مسار السودان والعبث بهويته. وأنا أتذكر هنا الرئيس السابق عمر البشير وكراهيته العميقة للإقليم الشمالي من وادي النيل، وأعني به الدولة المصرية حتى حاول دائماً تسميم العلاقات بين القطرين التوأم، وسعى إلى تغذية النعرات التي خلّفها الاستعمار البريطاني بين البلدين الشقيقين. وأنا أعترف بأن لي مشكلة شخصية مع الرئيس الأسبق عبّرت من خلالها عن وجهة نظري في فترة حكمه وذلك أثناء وجوده في السلطة. وقد لا يكون من الفروسية أن أستطرد هنا في ذكر سيّئاته وتعداد أخطائه، ولكن السودان الجديد  بدأ يتعافى على الرغم من الظروف المعقدة والبيئة الدولية الصعبة والمناخ الإقليمي المتوتر بعد أحداث تشاد الأخيرة وتحديات العلاقات بينه وجيرانه، خصوصاً مع إثيوبيا حيث مشكلة الحدود بين البلدين، فضلاً عن الأزمة المعقدة في موضوع سد النهضة والملابسات التي ارتبطت بها والتداعيات المنتظرة عنها، ويهمني أن أسجل هنا الملاحظات التالية:

أولاً: إن السودان هو أكبر الدول الأفريقية مساحة، كما أنه سلة الغذاء للمنطقة بفضل خصوبة الأرض والمساحات الشاسعة الصالحة للزراعة فيها، فضلاً عن المياه التي كانت وفيرة دائماً. ولقد ساقتني الظروف في مهمة رسمية كي أزور مدينة ملكال التي أصبحت واحدة من مدن دولة جنوب السودان، وراعني يومها ذلك الفقر الشديد والتدني الواضح في مستوى المعيشة ونمط الحياة. ووجدت أن كل ما لديهم من مصر أنها بنت مسجداً هناك إبان العصر الملكي، وهو يحمل اسم الملك فاروق، ولكن لم تكن هناك جهود للنهوض بالسودان المتحد على نحو يغري بتماسك الدولة واستمرار وحدة أراضيها، بل كان العكس صحيحاً على ما يبدو.

ثانياً: إن للسودان مواقف أفريقية وعربية وإسلامية مشهودة، بل وتعتبر نقاط تحوّل في الأدوار المختلفة لتلك الدوائر من الهوية السودانية. فالخرطوم التي خرجت في أغسطس (آب) 1967 لتحية الرئيس الراحل عبد الناصر في أعقاب هزيمة يونيو (حزيران)، كانت بمثابة التحول الحقيقي لمعنويات القائد وجيشه وشعبه، خصوصاً أن السودانيين معروفون بالصراحة والشفافية، ويجاهرون بآرائهم بشجاعة ولا يعرفون النفاق الذي تتميز به شعوب أخرى. لذلك كان مؤتمر القمة العربية في الخرطوم هو نقطة التحوّل الكبرى تجاه الهزيمة النكراء.

ثالثاً: إن السودان يتجه إلى تغييرات راديكالية كبرى في شأنه الداخلي وعلاقاته الخارجية، ويبحث جادّاً عن طريق جديد يخرج به البلاد من عنق الزجاجة التي جرى حشره فيها، عندما كان متهماً بإيواء الإرهاب والتستر على العنف والسعي لتكريس دور الجبهة الإسلامية للانفراد بالحكم من دون القوى السياسية الأخرى في البلاد. وحسناً جاء قرار رفع السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب، لكي يعيد لذلك البلد الأصيل رونقه الفكري والثقافي وتألقه السياسي والاجتماعي. فلقد عرف السودان عبر تاريخه الطويل شخصيات مؤثرة منذ بروز الحركة المهدية، ودور المهدي الكبير وخلفائه إلى جانب دور الختمية وأبناء السيد الميرغني في إحداث توازن حول السلطة في الخرطوم، على اعتبار أنهما جماعتان سياسيتان ولكن في إطار ديني. ولا ننسى أن الإمام المهدي الكبير كان يريد مقايضة عرابي في منفاه مع غوردون البريطاني قبل مصرعه. لذلك فإنني أحسب أن العلاقات المصرية السودانية متجذرة في الأعماق على الرغم من كل ما يعتريها من مشكلات طارئة أو أزمات عابرة. والمصريون يدركون دائماً أن السودان هو العمق الاستراتيجي لهم وعندما وقعت نكسة يونيو 1967، لم تجد مصر مكاناً آمناً لطلاب كلياتها العسكرية غير منطقة جبل الأولياء في السودان الشقيق.

رابعاً: إن أزمة سد النهضة والمخاطر المشتركة التي تحملها إلى دولتَي المصب السودان ومصر كفيلة بإحياء روح الأخوة التاريخية وإنعاش الذاكرة الوطنية في كل من البلدين، اللذين تربطهما أقوى الوشائج وأعمق الروابط، خصوصاً أن التعنّت الإثيوبي يستهدف البلدين معاً، ويسعى باستماتة في هذه الفترة إلى دق إسفين بينهما والعبث بالعلاقات التاريخية التي تربط بين القاهرة والخرطوم، لأن نجاحها في ذلك يجعل أديس أبابا قادرة على تحقيق مخططها الخبيث، الذي تدعمها فيه قوى أجنبية لا تحب العرب ولا الأفارقة.

خامساً: إن وعي القيادة السودانية الجديدة ووطنية الجيش السوداني تبعثان على الطمأنينة، لأن السودان دولة تمرّست على السياسة والحكم من خلال ما مرت به من مصاعب وما واجهته من تحديات، لذلك فإن قدرتها على عبور الظرف الحالي من منطلق وطني وقومي يجعل الأمر أكثر تفاؤلاً وأقل تشاؤماً. فالمخاطر واحدة ونحن في مصر والسودان نتمنى للأشقاء في إثيوبيا التنمية الاقتصادية ومحاربة الفقر، ونأمل منهم أيضاً الابتعاد عن العبث بحصة النهر لدولتَي المصب، لأن ذلك يؤكد المعنى الواضح للوحدة الأفريقية التي يتولّى اتحادها محاولة رأب الصدع والخروج من المأزق في تماسك وتضامن، وفقاً للشرعية الدولية ومبادئ القانون الدولي المنظمة للعلاقة بين الدول المتشاطئة على أنهار عابرة للحدود.

إننا نأمل أن يكون تعافي السودان الشقيق لطمة لكل الطامعين في الموارد الأفريقية والعربية، خصوصاً المياه أو الأرض، فهما عنصرا الحياة في كل زمان ومكان.

 

*هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن الأمة برس



مقالات أخرى للكاتب

  • ساحات المقاومة وأهمية المفاوضة
  • هل يمكن التعايش المشترك؟!
  • أطفال فلسطين ومستقبل الصراع  





  • كاريكاتير

    إستطلاعات الرأي