لبنان في خضم أوجاعه
2021-03-14
عدلي صادق
عدلي صادق

يستحق لبنان، الكثير من التأسي على أحواله وأحوال أهله، في وجعهما البدائي، الذي وصل إلى حد الدخول قبل أسابيع في تمرين مصغّر ومحدود، على “انفجار” ينجم في شكل عراك، على كيس حليب. وفي الحقيقة، لا نعلم الكثير من التفصيلات الصغيرة، لهذا الوجع، وسط الخضم العربي الصاخب ومآسيه. ربما تكون أبلغ الآهات، على ما يجري في بيروت، هي آهات غزة المحاصرة، التي أبكت وفدا سودانيا على أحوال بلاده، عندما جاءها زائرا متعاطفا مع محنتها، فوجدها لا تزال تنبض وتكابد وتستمر في الخفقان.

بيروت ذات التقسيمات الجغرافية الهانئة، التي اتخذت لنفسها، ثلاثة أشكال وأسماء: الحي، والمحلة، والزاروب؛ توارت عن الأنظار. باتت مختزلة في أربعة أساطين نافرة: ميشيل عون، رئيس البلاد، وجوزيف عون ـ غير قريب للأول ـ قائد الجيش، و”حزب الله” القوة الأيديولوجية المسلحة، والشارع المنتفض!

في ليلهم الدائخ، يعيش اللبنانيون بين هذه الأساطين. سُئل الأول: إلى أين نحن ذاهبون؟ أجاب من فوره: إلى جهنم. وسُئل الثاني: هل تأمر جنودك بفتح الطرق وقمع التظاهرات؟ أجاب: كلا. ليس الناس هم الذين يستحقون العصا الغليظة، وإنما يستحقها أهل السياسة. وسُئل الثالث، وهو الحزب، هل تمنحنا فرصة الخروج من المأزق، بالتماهي مع الإقليم دون الاندماج فيه، لكي نعيش حياديين؟ أجاب: كلا، فنحن متميزون، وسنظل على دأبنا، ببلدنا المخنوق، الذي لم تعد لديه مناعة، لا في الاجتماع ولا في الاقتصاد، ولا حتى في الثقافة والإعلام.

زواريب “الجورة” و”الدَّهان” و”المبروم” و”الحرامية” في “الخندق الغميق”، وزاروب “منيمنة” و”العِليّة” ومعهم زواريب الحرف والأعمال في الأحياء؛ باتوا يرفدون المدينة والتقسيمات التي كانت هانئة، بالمزيد من الأنين. أما حاملة الطائرات الإعلامية الجبارة، التي كانت، فقد تحولت إلى كتلة صفيح. اختفت الصحف مع أمرائها، وتخلى عنها الممولون الكثيرون مرتين، بعد أن كانت خيل السجالات في الإقليم. مرة تحت ثقل الإعلام الإلكتروني، والثانية بإنكار لبنان والتخلي عنه، بجريرة أحد مكونات المشهد الذي فيه. فقد انطوى الزمن الذي كان فيه ملوك ورؤساء الممالك والجمهوريات، يصادقون رؤساء تحرير الصحف اللبنانية، وكان اغتيال رئيس تحرير له دوي اغتيال السياسي الكبير. فقد كان ذلك طبيعيا في زمن لبنان الزاهي. اليوم، اختفى هؤلاء، مع أدوارهم، ولم يتركوا ورثة. فقد غيب الموت يوم أول أمس الجمعة، خيرالدين حسيب، العراقي واللبناني الإقامة، الأب الحي للفكرة القومية. وكان حسيب، في شيخوخته، شبيها لأجنحة لبنان المتكسرة!

لم تفقد بيروت ألقها، على مر عقود طويلة، تخللتها حروب. لعل صديقنا الشاعر الراحل، أمجد ناصر، كان واحدا ممن أفاضوا في شرح لذة بيروت في أحلك أوقات حصارها في العام 1982. فقد وصل به الأمر، في وصف الحياة المتوقدة، عندما حلّت الأهوال وتنافرت المصائر؛ إلى الاعتراف بأنه كان يراقب “النساء اللواتي يظهرن في الشرفات ويتحركن في دواخل الغرف بثياب النوم”. كان ذاك هو “مشهد النساء الباقيات في بيروت في ذلك الصيف القائظ، الذي أرغم الجميع على التخفف من الملابس”. استخلص الشاعر من اللقطة إشارة حياة في مدينة الموت آنذاك!

باتت بيروت، بكل أماكنها الأثيرة، موضعا للبؤس. أمراء الطوائف، وحدهم، الذين يتفرجون مستريحين. ليست هناك حكومة في البلد، إذ استعصى تشكيلها على المكلف بها. أما المكلف بتسيير الأعمال، فلا يزال يعبر عن رغبته في الاعتكاف. ربما هذه هي جهنم التي بادر رئيس الجهورية، إلى التبشير بها مبكرا.


*كاتب وسياسي فلسطيني
*المقال يعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا يعبر بالضرورة عن رأي الموقع



مقالات أخرى للكاتب

  • إنتاج التطرف في الهند
  • أوميكرون وريث كوفيد
  • الممسكون بالرقاب





  • كاريكاتير

    إستطلاعات الرأي