من يعطل مسار الشرق في السلطة الانتقالية؟
2021-03-07
محمد جميل أحمد
محمد جميل أحمد

منذ أن حجبت تسمية وزير التربية المفترض في الحكومة السودانية الجديدة (كان المنصب جزءاً من استحقاق مسار شرق السودان، وكان قد جرى التوافق بين الجبهة الثورية على إسناده إلى الأستاذ أسامة سعيد رئيس حزب مؤتمر البجا المعارض) بدا واضحاً أن هناك في المكون العسكري من يريد أن يُحدث إرباكاً في سوية عمل المسار، نتيجة لضغوط من قوى معينة في شرق السودان على رأسها المجلس الأعلى لنظارات البجا والعموديات المستقلة، حيث ظل المجلس رافضاً المشاركة في المؤتمر التشاوري لشرق السودان، ما لم يخصص قبل ذلك منبر مستقل له للتفاوض بما يضمن له سلطة مخصصة.

لكن، المعضلة كانت في الكيفية الدستورية التي يمكن بها إعطاء ذلك المنبر التفاوضي للمجلس الأعلى لنظارات البجا، بعد أن جرى قفل اتفاقية مسار الشرق، وأصبح المنبر الوحيد لاستكمال ما أغفلته الاتفاقية هو فقط المؤتمر التشاوري لأهل المصلحة في شرق السودان.

من الواضح أن الإشكال الذي أصبح عليه الوضع السياسي في شرق السودان والقوى السياسوية التي تلعب أدوارها هناك بدا مغرياً لكثيرين في المركز، لا سيما المكون العسكري، للاستثمار في تناقضات تلك القوى السياسية، وهي تناقضات واضحة مع الأسف، وتعبر عن قصور سياسيي شرق السودان عن القدرة على رؤية مصالحهم السياسية من خلال زوايا متعددة يتعزز بها مفهوم الشبكة حيال وعي تلك المصالح، بدلاً من الأوهام الأحادية في ادعاء تمثيل كل أهل شرق السودان، كما يعبر عن ذلك الخطاب السياسوي للمجلس الأعلى لنظارات البجا.

ومنذ أن طفا في بعض عناوين الأخبار احتمال باختيار ناظر الهدندوة محمد محمد الأمين ترك لعضوية المجلس التشريعي المقبل، ظهرت اعتراضات من بعض القوى السياسية، وعلى رأسها قوى الحرية والتغيير، كون أن الناظر ترك كان جزءاً من نظام البشير وعضواً في البرلمان السابق للنظام البائد.

ربما كان الخبر بالون اختبار من طرف مؤثرين في المكون العسكري لقياس ردود الفعل، لكن من الواضح جداً أن مقاييس التعامل مع بعض القوى السياسية في شرق السودان (مثل المجلس الأعلى لنظارات البجا) من قبل المكون العسكري، مثل نائب رئيس مجلس السيادة محمد حمدان دقلو (المعروف بحميدتي) الذي يتعامل مع قادة المجلس الأعلى لنظارات البجا، كما لو أنهم جزء من الثورة أو جزء من القوى المعبرة عن الروح الثورية في شرق السودان.

وهذا التعامل مع قادة المجلس الأعلى لنظارات البجا من طرف نائب رئيس مجلس السيادة الفريق محمد حمدان دقلو سيصب في تفاعلات سلبية لا تخدم قضية شرق السودان. فإذا ظن حميدتي أن الخطاب الذي يسوق له أنصار المجلس الأعلى لنظارات البجا (وهو خطاب انعزالي إقصائي وغير سياسي) خطاب يخدم أجندة السلم الأهلي في شرق السودان فسيكون واهماً، هو الذي شاهد بنفسه عندما شارك في مؤتمر سنكات الذي حشد له المجلس الأعلى لنظارات البجا، أكتوبر (تشرين الأول) الماضي عينة من طبيعة ذلك الخطاب.

من الغريب أن حميدتي، الذي لعب دوراً إيجابياً في الوصول إلى نهايات مرضية لاتفاقية جوبا للسلام، يقف هذا الموقف العجيب في تعطيل إنفاذ استحقاقات مسار الشرق بتلك الطريقة التي لا تعكس حكمة ولا تعبر عن كياسة، فإذا كان حميدتي مقتنعاً بالخطاب السياسوي الانعزالي للمجلس الأعلى لنظارات البجا، ومصدقاً لتلك الشعارات التي يرفعها وينشرها قادة المجلس التي ظلت باستمرار تهدد بتفجير السلم الأهلي في حال إقصائهم من أي سلطة في عهد الثورة (وهم في غالبيتهم كانوا جزءاً من نظام البشير) فإنه سيجد نفسه على مفترق طرق مع قوى الحرية والتغيير الذين لا يمكنهم أن يسمحوا بتمرير أي من قادة المجلس الأعلى لنظارات البجا إلى منصب سياسي في العهد الجديد، وكذلك فإن موقف الوساطة في اتفاقية جوبا للسلام كان واضحاً في تصريح رئيسها توت قلواك الذي طالب بإنفاذ استحقاق مسار شرق السودان، دون أي تعطيل.

وعلى الرغم من أن كلاً من مؤتمر البجا المعارض بقيادة أسامة سعيد، والجبهة الشعبية المتحدة للتحرير والعدالة بقيادة خالد شاويش كانوا قد التزموا ضبط النفس على الممارسات غير المفهومة من قبل نافذين في المكون العسكري، فإن خروجهم من صمتهم كان خروجاً سياسياً سلمياً، عندما صرح كل من أسامة سعيد وخالد شاويش قبل أيام في جوبا، حيث قال أسامة، "توجد صعوبات وعقبات كثيرة تواجه تنفيذ اتفاق سلام شرق السودان، ونحن تقدمنا بشكوى رسمية إلى الوسيط الفريق توت قلواك رئيس لجنة الوساطة، ووجدنا تفهماً كبيراً من الوساطة ومن حكومة جنوب السودان".

وأضاف سعيد "هناك توجه غير مقبول من الحكومة بتجميد اتفاق مسار شرق السودان وعدم تنفيذه، وهذا خلل كبير، لأن الاتفاق هو جزء من الوثيقة الدستورية، ويجب على الحكومة أن تلتزمه. ونحن نقول بوضوح، كل اتفاق سلام جوبا ليس بخير، الحكومة تتقاعس في تشكيل الآليات التي وردت في الاتفاق لتنفيذه من قبل اللجنة العليا الوطنية للاتفاق، وكذلك لجنة المراقبة والتقييم، كما أن اللجان الخاصة بالمسارات لم يتم تكوينها، والوساطة قد رفعت كل اللجان منذ أكثر من شهرين فيما الحكومة لم تنفذ هذا البند المهم".

وحيال الاحتجاج من طرف البعض في السلطة الانتقالية بأن شرق السودان يشهد أحداثاً أمنية في محاولة منهم لتعطيل مسار الشرق، قال سعيد، "تقاعست الحكومة في تنفيذ مسار الشرق بحجة أن الأوضاع في شرق السودان غير ملائمة فيما نحن نرى ونعلم بأن الأوضاع في دارفور ليست ملائمة أيضاً، لكن جرى تنفيذ الاتفاق هناك على الرغم من الموت اليومي في دارفور ورفض الاتفاق من قبل مسلحين يحملون السلاح مثل حركة عبد الواحد، وهم يرفضون اتفاق جوبا، وعلى الرغم من ذلك بدأت الحكومة تنفيذ اتفاق جوبا في دارفور. لكن بحجة أن الأوضاع في شرق السودان غير ملائمة لم تنفذ الحكومة الاتفاق. هذا وضع مخل، ونحن نطالب حكومة السودان إما أن تعلن صراحة أنها ألغت مسار شرق السودان، وإما أن تلتزم تنفيذه فوراً. إننا في مسار شرق السودان التزمنا الخط الوطني والخط القانوني والدستوري، لقد ذهبنا إلى الضامنين وإلى الوساطة، والآن الحكومة السودانية لا تريد تنفيذ اتفاق سلام شرق السودان، وهذا خلل كبير ومخالف لأهداف الثورة في الحرية والسلام".

أما خالد شاويش، رئيس الجبهة الشعبية المتحدة للتحرير والعدالة، فقال "نحن في مسار شرق السودان، اقترحنا قيام مؤتمر تشاوري لأهل شرق السودان في المادة 32، ويبدو أن الحكومة جعلت من هذا المؤتمر ذريعة لتعطيل الاتفاق". ويضيف "هناك في الحكومة السودانية من يدعمون القوى الرافضة اتفاق مسار شرق السودان، دعماً مادياً ومعنوياً واضحاً، بدليل صدور خبر بترشيح أحد قيادات المؤتمر الوطني السابق للمجلس التشريعي من قبل المكون العسكري في السلطة الانتقالية، ونحن استغربنا أن يجري ترشيح ناظر بارز من الشرق (كان جزءاً من نظام المؤتمر الوطني البائد) للمجلس التشريعي في ظل حكومة الحرية والتغيير.. هناك خطأ في إدارة ملف شرق السودان. نحن الآن بعيدون تمام البعد عن اللجان، ولم نشارك فيها، وليس هناك إدارة واضحة للملف. وحتى الآن لا نعرف مع من نتعامل في هذا الملف، وليس هناك وضوح. ويبدو أن الحكومة الانتقالية تلعب بالنار. وهذا خطأ لا ينبغي السكوت عنه.. رسالتنا واضحة للحكومة وعليها أن توضح، إما أن تعلن إلغاء الاتفاق، أو تنفيذه مباشرة".

(ستنا محمود أسرتا) عضو المجلس القيادي للجبهة الثورية السودانية تقول في إفادتها الخاصة لـ"اندبندنت عربية"، "إننا في الجبهة الثورية غير راضين حيال الإعاقات التي تحدث أمام تنفيذ استحقاقات مسار شرق السودان الذي هو جزء لا يتجزأ من اتفاق جوبا للسلام، لأن أي خرق لجزء من الاتفاق هو بمثابة تهديد وخرق لاتفاق جوبا برمته. هناك تلكؤ متعمد في تنفيذ تلك الاستحقاقات، من بعض أطراف الحكومة الانتقالية. ومحاولة تعطيل مسار الشرق سيضر بالعملية السلمية برمتها، لأن تجزئة تنفيذ الاتفاق تعد مؤشراً خطيراً للارتداد على ما جرى الاتفاق عليه في اتفاقية سلام جوبا. وأعتقد أن الصمت عن هذه المؤامرة التي تحاك ضد مسار الشرق نتيجتها أن تتسبب بالعدوى للمسارات الأخرى، وما الشرق إلا البداية. وهذا لا يجب أن يمر. نعم هناك تعقيدات في شرق السودان، لكن هذه التعقيدات يجب معالجتها بالآليات التي نص عليها اتفاق مسار شرق السودان، وهي المؤتمر التشاوري المنصوص عليه في الاتفاق، دون أي محاولة للالتفاف أو التعطيل أو التجميد، ولهذا يجب تنفيذ اتفاق شرق السودان واستحقاقاته جنباً إلى جنب مع قيام المؤتمر التشاوري".

هكذا بعد هذا الإعلان الواضح من قبل الوساطة وقادة القوى الموقعة على مسار شرق السودان في اتفاق جوبا، ستبدو الكرة في ملعب الحكومة، لا سيما المكون العسكري في السلطة الانتقالية.

ربما كان شرق السودان الملعب الأبرز للأوراق التي تتصارع بها بعض مراكز القوى في السلطة الانتقالية، لا سيما بين المكون العسكري، لكن على الجميع أن يدرك أن أي معاملة خاصة لقوى الثورة المضادة في شرق السودان، بحجة الأوضاع الأمنية، ستكون نتائجها كارثية، مهما ظن البعض خلاف ذلك.

لقد كان شرق السودان الحلقة الأضعف التي سمحت بتجذر نظام تسييس الإدارة الأهلية الذي خلفه نظام البشير، ليفخخ به مستقبل الأوضاع السياسية في شرق السودان، وعلى قوى الحرية والتغيير والسلطة الانتقالية بقسميها في الحكومة ومجلس السيادة أن تدرك أن أي تهاون مع أي كيان سياسوي في شرق السودان يتوسل الأساليب الانعزالية، ويطرح خطاباً للإقصاء والكراهية، ومحاولة إدماجه في العهد الجديد بحجج واهية، سيكون وبالاً على مستقبل السلم والاستقرار هناك.

وإذا كان البعض في المركز لديه استعداد للتعاون مع الذين ينظرون إلى استحقاقات السلطة والسياسة في شرق السودان بمنظور القبيلة، ويمارسون الإقصاء والتمييز حيال مواطنين آخرين في شرق السودان وفقاً لذلك المنظور، فعلى من يتماهى في السلطة الانتقالية مع ذلك الخطاب أن يدرك أنه يمهد طريقاً ملكياً للحرب الأهلية.

 

*كاتب سوداني

*المقال يعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا يعبر بالضرورة عن رأي الموقع



مقالات أخرى للكاتب

  • المجلس الأعلى لنظارات البجا.. هوية ضد التاريخ!
  • تحزيب الثورة... وخطر تسييس لجان المقاومة السودانية
  • المشهد السياسي في السودان بعد حمدوك





  • كاريكاتير

    إستطلاعات الرأي