جبرا إبراهيم جبرا يروي فصولاً من سيرته في «شارع الأميرات»

2021-03-26

شكيب كاظم*


للمصادفات الحميدة، آثارها الطيبة في كثير من أمور الحياة ونتائجها، فلو لم يطلب محرر في إحدى المجلات العراقية كثيرة الرواج؛ لو لم يطلب منه كتابة عدد من المقالات، يتحدث في كل واحدة منها، عن تجربة من تجاربه الحياتية الثرة، لبقيت هذه الفصول ثاوية في عقل جبرا وذاكرته، وسيطويها النسيان، أو بالحري لن يقف عندها أحد لأنها لم تكتب.
صحيح أن جبرا كتب جزءا من سيرته الذاتية في «البئر الأولى» وهي التي تترجم للسنوات الثلاث عشرة من حياته الأولى في مسقط رأسه، في بيت لحم، ومن ثم انتقال الأسرة إلى مدينة القدس، وصحيح – كذلك – أن جبرا سرّب الكثير من سيرته الذاتية، وتجاربه الحياتية في عديد رواياته، فضلاً عن الكثير من المقابلات الصحافية والإذاعية، لكن أن يكلف بكتابة حديث يمتح من السيرة الذاتية، وحديث عن تجربة حياتية، وما أغناها وما أثراها، فهذا سيكون أجدر بالبقاء والذيوع والتأثير.
ولولا هذا التكليف وانكباب جبرا على كتابة هذه الفصول، وجبرا من خلال قراءتي لهذه الفصول، أراه كثير الانشغال بالحياة الاعتيادية، وكثير التأجيل لمشاريعه الثقافية، إنه يفضل عليها جلسة طعام أو شراب في فندق راق، أو جلسة مع أصدقائه، حيث الأحاديث واحتساء القهوة وتدخين الغليون، إذ لولا هذا التكليف الذي أراه أقرب إلى الإلزام، لضاعت منا فصول غنية رائعة، إذ يفصل بين كتابتها ورحيل جبرا في اليوم الثاني عشر من الشهر الثاني عشر من سنة 1994، يفصل بينهما نحو ثمانية أشهر، إذ فرغ من كتابة فصوله الذاتية هذه في آذار/مارس سنة 1994!

ما قالته العرافة

قدر هذا الرجل أن يحيا في العراق، أكثر سني حياته، وقدر هذا الرجل الذي تنبأت له (وردة) العرافة؛ صديقة أمه في بيت لحم، أن يتعرف إلى امرأة ثرية، ابنة باشا «ولسة الجايات أكبر وأكبر» كما تنبأت العرافة العراقية البصرية لمستقبل حيوات، بدر شاكر السياب، ومهدي عيسى الصقر، ومحمود البريكان، ومحمود عبد الوهاب، وسعدي يوسف، وصحت تنبؤاتها كلها، وهكذا تشاء المصادفة أن يلتقي جبرا خريف سنة 1948، بعبد العزيز الدوري، الذي كان قد عاد تواً من الدراسة في جامعة كامبريدج، ليؤسس كلية الآداب والعلوم، يلتقي في مبنى السفارة العراقية بدمشق بالدوري، الذي أوفد إلى دمشق كي يتعاقد مع كفاءات عربية، تتولى العمل في المعاهد العالية والكليات العراقية، وكان العراق وقتذاك سباقاً لاكتناز الكفاءات كي يبني الدولة العراقية الناشئة، فضلاً عن الكفاءات التي جلبها معه الملك فيصل الأول، ممن عملوا معه في العهد الفيصلي القصير في الشام.
أهم فصول كتاب «شارع الأميرات. فصول من سيرة ذاتية» هو الفصل الموسوم (لميعة والسنة العجائبية) ويقع في إثني عشر مقطعاً، وفيه حديث عن سنوات الخمسين من القرن العشرين، أيام النهوض العراقي، بعد أن زاد العراق من مدخولاته النفطية، إذ أصبح العراق يحصل من مبيعاته النفطية الخام، على واحد وخمسين في المئة، وتأسيس مجلس الإعمار، ومن ثم وزارة الإعمار، بعد أن كان يحصل على النزر اليسير من ثروته النفطية، التي تستحوذ عليها الشركة المنتجة، وقد تحدث في هذه الفصول عن لقائه بعالم الآثار ماكس مالوان، الذي كان يواصل تنقيباته في مناطق النمرود، ويفاجأ حينما يُخَبر بأن السيدة التي التقاها مراراً في بيت مالوان؛ هي كاتبة الروايات البوليسية الشهيرة أجاثا كريستي، الذي كان شغوفا بقراءتها، ويقع في إحراج حاول تفاديه، إذ يسألها عن عدد رواياتها؟ سألها هذا السؤال بعد أن شعر بتوطد العلاقة معها.
تجيبه: لقد أحصيتها منذ مدة، فوجدت أنها ست وخمسون.
– سيدتي، المهم هو أن يكون لدى المرء دائماً ما هو جديد يريد قوله، ويستحق القول!
لكن الروائية الذكية، وقد لمست هذا التعريض بإمكاناتها الفنية والإبداعية، سألته بمكر لطيف شفيف.
– وأنت كم كتابا كتبت حتى الآن!
فهز جبرا رأسه ضاحكاً ولم يجب.

لميعة العسكري

يحدثنا جبرا في هذه المقاطع، عن لقاءاته بالآنسة لميعة العسكري، التي كانت قد عادت تواً، حاملة الماجستير من جامعة وسكانسن في ولاية ماديسون الأمريكية، وتعينت في دار المعلمين العالية، وانعقاد آصرة الحب بينهما، التي تكللت بالزواج على يد القاضي عبد الحميد الأتروشي، وكان مقدم المهر دينارا واحدا، والمؤخر ديناران اثنان! الأمر الذي يلفت انتباه القاضي فيسألها.
يا لميعة برقي شوقي العسكري، هل تعرفين أن مهرك المقدم دينار واحد، ومهرك المؤخر ديناران اثنان؟
أجابت: نعم، فضيلة القاضي.
فسألها: وأنت راضية بهذا المهر؟
فأجابت: نعم راضية.
قال: وهل تسلمت الدينار الواحد، كمهر مقدم؟
قالت: نعم.
فأجال بصره بيننا نحن الاثنين، وبين الشاهدين، وهو يبتسم وقال: أشهد بالله أن هذا الزواج ليس الدافع إليه هو المال. وأجرى بسرعة ما يقتضيه الأمر.
تقرأ في هذه المقاطع فتجد حديثاً عن عراق ينشأ ويزدهر، بهذه الكفاءات العائدة إلى أرض الوطن، بعد أن درست في أرقى معاهد الدنيا؛ كامبريدج، أكسفورد، أكستر، هارفرد، لا بل إن جون مارشال المسؤول في مؤسسة روكفلر، التي كانت تمنح بعض الأساتذة الجامعيين زمالات، لزيادة خبراتهم أو الحصول على شهادات أعلى؛ الدكتوراه مثلاً، وبعد مراسلات بينهما، يأتي مارشال إلى العراق ليعرض على جبرا مواصلة دراسته للنقد، أن يدرسه في مدينة كامبريدج بولاية ماساشوستس، حيث تقع جامعة هارفارد ، قائلا له ومحاولا إقناعه: «إنكم معشر كامبريدج البريطانية لا تتصورون أن في العالم جامعة أخرى ترقى إلى مستواكم، لا بأس، لكن تعال إلى هارفرد، وجربنا في جامعتنا، وأنا واثق أنك لن تندم». بعد تردد، يقول جبرا، وبعد أن ذكرني بأن هارفرد اليوم، إحدى أعظم جامعات العالم قاطبة، وافقت على اقتراحه! في مثل هذه الجامعات العلمية الرصينة، كان يدرس الطلبة العراقيون، حتى إن جبرا الدارس في كامبريدج، يتردد في الموافقة على الدراسة في هارفرد! كما أن الأستاذ متي العقراوي، وكان مديراً عاماً للتعليم العالي، ومن ثم سيتولى رئاسة جامعة بغداد، في بواكيرها الأولى سنة 1957، يبذل قصارى جهده كي يرسل خالد الرحال في بعثة دراسية، وقد لمس نبوغه في النحت، ولما لم يكن الرحال قد حصل على الشهادة الثانوية، التي تؤهله لبعثة ما، فإن متى العقراوي يبذل مساعيه الخيرة والمضنية، كي يحصل له على زمالة دراسية خاصة، بموجب اتفاقية ثقافية مع السفارة الإيطالية غير خاضعة لشروط بعثات وزارة المعارف العراقية!

عبد الواحد لؤلؤة

جبرا، وهو الأستاذ الجامعي في دار المعلمين العالية، وكلية الملكة عالية للبنات، يرى شغف الشباب العراقي آنذاك بالدراسة، على الرغم من فقر الحال «وكان من السهل أن أرى معظم الطلاب الذكور يلبسون ثيابا عتيقة، صمموا على متابعة تعليمهم مهما وجدوا في ذلك من مشقة، وكان النظام التعليمي في العراق يومئذ يتيح لصبي ولد في صريفة من طين، وقضى طفولته حافياً، أن يكمل دراسته الجامعية، بل وينال الدكتوراه من أي جامعة في العالم كطالب بعثة، إن أبدى الذكاء والقدرة على المثابرة، دون أن يتكبد فلساً واحداً من عنده». كما يقف عند الطالب النابه عبد الواحد لؤلؤة، الذي سيمسي علماً من أعلام الثقافة والنقد في العراق، فقد تخرج في قسم اللغة الإنكليزية في دار المعلمين العالية في بغداد، قبل ثلاث سنوات بدر شاكر السياب، وعما قريب سيتخرج طالب متميز آخر: عبد الواحد لؤلؤة.
يتحدث جبرا عن ازدهار حركة الثقافة في العراق، في تلك السنوات أواخر أربعينيات القرن العشرين وخمسينياته، وتأسيس جماعة بغداد للفن الحديث، وجماعة الوقت الضائع، وجماعة الانطباعيين، وشواخص الثقافة والشعر والنحت والرسم والنقد ورموزه: نجيب المانع، وعدنان رؤف، وحسين هداوي، وخلدون ساطع الحصري، والطبيب خالد القصاب، وجواد سليم، وشقيقه نزار، وشاكر حسن، والمهندس رفعة كامل الجادرجي، و، و، وكلهم كفاءات صقلتها الجامعات الراقية في بريطانيا والولايات المتحدة، فضلاً عن: بلند الحيدري، وحسين مردان، وعبد الملك نوري، ويوسف عبد المسيح ثروت، وزهدي جار الله، والبريطاني دزموند ستيوارت. هؤلاء وغيرهم كثير وضعوا الأسس الأولى لثقافة العراق، التي سيتوقف نموها وتطورها بسبب العصف السياسي الذي ضرب العراق في سنوات تلت.
كان جبرا صديقا لـ علي كمال منذ أيام الصبا، منذ سنة 1937 في مدينة القدس، والذي سيدرس في سنوات لاحقة في الجامعة الأمريكية في بيروت، وإذ تحل النكبة سنة 1948، فإن طبيب الأمراض النفسية علي كمال يتوجه إلى لندن للعمل فيها، لكن جبرا وقد خبر توجهات الدولة العراقية في استقطاب الكفاءات، فإنه يحثه على المجيء إلى العراق، ونجح في مسعاه يوم التقى علي كمال بتحسين قدري، رئيس التشريفات في البلاط الملكي، وكان رجلاً عصري التفكير- كما يصفه جبرا- وفي الفلسطينيين ميل قديم إلى العراق، تزايد منذ أواسط الثلاثينيات، لإيمانهم بالدور القومي الأساسي الذي يؤديه العراق في حياة الأمة العربية، وهكذا كان، وجاء علي كمال في تلك السنة بتوصية من تحسين قدري، للعمل في الكلية الطبية الملكية العراقية، ويفتح عيادة في قلب بغداد، في شارع الرشيد، عند ساحة الملك فيصل الثاني، المواجهة لجسر الصالحية، وبقي في بغداد – يقول جبرا- كما بقيت طول العمر، وفي هذا الجو المتحضر الذي ساعدني على الاستمرار بنشاطي الفكري، على هواي قرابة ربع قرن من الزمن، وهي التي يذكرها الكثيرون ببغداد، وكأنها في تطلعاتها الإبداعية وزخمها الاجتماعي، عصر ذهبي يحاولون تلمس سحره قبل أن يتلاشى، وهو يتماثل في الذهن كحقبة من أغنى حقب المجتمع العربي المعاصر.

*كاتب عراقي







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي