سنموت حُرّات

2021-03-05

 

د. ابتهال الخطيب

 في قصتها «موت العثة» تحكي فيرجينيا وولف عن مراقبتها لهذا الجهد الحثيث لحشرة العثة في تسلق النافذة والسقوط منها في جهد جهيد عظيم جداً على حجمها وقدراتها، وبلا هدف حقيقي في هذا الكون الضخم البارد العديم، وإبان فترة زمنية لحظية بالغة القصر هي كل عمر هذه العثة.

تقول وولف في قصتها القصيرة «حين لم يكن هناك أحد ليهتم أو ليدرك هذا الجهد الضخم من جانب عثة ضئيلة مهملة، ضد سلطة بهذه الجسامة، للتحصل على ما لا يُقَيِّمه آخر أو يرغب في الاحتفاظ به، ذلك يحرك المشاعر بشكل غريب». في نهاية القصة، يتغلب الموت، ترضخ له العثة وتستلقي برزانة مسلمة للموت الذي هو أقوى منها.

كل عام ونساء العالم بخير، وأعتذر أنني أبدأ مقالاً أكتبه بمناسبة يوم المرأة العالمي باقتباس وجودي قاتم كالذي أعلاه، ولكن هل يستحق الموقف قتامة ويأساً أقل؟ ها نحن نحث الخطى حثيثاً إلى وسط القرن الواحد والعشرين ولا تزال المرأة في الكثير من أنحاء العالم، وتحديداً في عالمنا الشرق أوسطي، تعاني من انتقاص ليس فقط في حقوقها أو مواطنتها، ولكن في أمنها وسلامتها كذلك. لا تزال النساء يقدّمن قرابين لشرف الرجال «الأسطوري»، هذا المفهوم المصطنع الهلامي الذي لا علم يسنده ولا فهم اجتماعي حقيقي يقيم أوده.

لا تزال النساء يقتلن في الظلام ويدفنّ تحت جنح الليل، يتسترن على قاتليهن ليس فقط عوائلهن بحد ذاتهم وبقية «ذكور» المجتمع الشرقي والعادات والتقاليد البائدة، إنما يشارك في جريمة التستر كذلك وفي أحايين كثيرة القوانين الجائرة التي تعترف بجرائم الشرف والتي تخفف العقوبات عن مرتكبيها.

ولا يقف الاعتداء على النساء حد «تطميم» جرائم فقدهن لحيواتهن، هناك ما هو أبشع إن استطعنا تصور أن هناك ما هو أبشع من فقدان الحياة. هناك جريمة تزويج الصغيرات التي لا تزال مقبولة ومفعلة في أطراف كثيرة من عالمنا العربي الإسلامي، هناك جريمة الإجبار على الزواج، هناك جريمة استعباد الزوجات تحت قوانين لا تعطيهن حق تحرير أنفسهن من زواجاتهن، هناك جريمة تزويج النساء من مغتصبيهن، هناك جريمة ختان الصغيرات، هناك جريمة تعنيف الزوجات واغتصابهن من قبل أزواجهن، هناك جريمة حرمان النساء من المواطنة الكاملة الفاعلة وخلق «عديمي جنسية» من أبنائهن، هناك وهناك، تتعدد الجرائم والضحية واحدة، هي المرأة التي تعاني من خلال هذه الجرائم مراراً أفظع من مرار الموت، وفقداً أشد وأعظم من فقد الحياة، وفقداً لطعم ومعنى هذه الحياة، فقداً للشعور بمرور الزمن وقيمة العيش فيه. تحيا الكثير من النساء جراء هذه الجرائم التي ترتكب على مرأى ومسمع من العالم أجمع كأجساد بلا أرواح، كآلات خدمة، «كوسائل» و»كماليات» بلا أمل في مستقبل أو طعم لحياة أو درجة ولو ضئيلة من متعة العيش.

ليس هذا كلاماً مبالغاً به، يا ليته كان كذلك، ليتنا كنا نمتلك رفاهية المبالغة ومخملية درامية الحديث، هذه هي الحقيقة العارية البشعة، تعيشها بنات جنسنا، ونحمل نحن اللواتي حمتنا أقدارنا وحظوظنا منها الإثم إثمين، وتأنيب الضمير تأنيبين، إثم المشاركة بوعي أو دونه، سكوتاً أو تجاهلاً أو أحياناً حتى مساهمة مباشرة، في اضطهاد بنات جنسنا، وتأنيب الاستمرار في الحياة والاستمتاع بمفرداتها وهناك نساء تعذب وتهان وتتهدد وتبات خائفة كسيرة وتصبح مرهقة ذليلة دامية الجسد والروح.

لا تزال هناك 27 دولة حول العالم تمنع عن المرأة حقها في تجنيس أبنائها وبدرجات متفاوتة. لا تزال هناك دول شكلها الخارجي مدني وباطنها عشائري قديم، تنظر للمرأة بنصف عين، وتقيمها بنصف قيمة، وتعاملها كتابعة لا كإنسانة حرة مكتملة، فتجدها تنتهكها في أعز ما تملك، في مواطنتها، فتجعل منها غريبة في بلدها، أبناؤها أجانب على أرضها، وزوجها دخيل في مجتمعها، تعيش حالة قلق وعدم استقرار بل وأحياناً استجداء مستمرين.

ولا تزال هناك دول أكثر، تشرع للرجل حقوقاً وحمايات ومصالح على حساب المرأة، على حساب مساواتها ومواطنتها وحتى قيمتها كإنسانة. لا تزال هناك دول تعطي ولي الأمر الذكر حق التزويج، والزوج حق التطليق، ليتعلق مصير المرأة بين الاثنين، لا تزال هناك دول تتسامح في جرائم «القرف»، تفرق في مقدار الإرث، تميز في تشريع الحضانة، تفاوت في فرص العمل وقيمة الأجور.

مازالت هناك مجتمعات تسامح الخائن وتسمي جريمته زلة وتتسامح مع «النهم» وتسمي نهمه غريزة وتغفر للمنفعل العنيف وتسمي انفعاله وعنفه وتعديه نخوة. ما زال «قلب» العديد من المجتمعات يحب الذكر ويحتفي به ويقدمه في الحظوة، ومازالت النساء يدفعن الثمن كل يوم.

أشعر أحياناً أننا نتسلق كما عثة فيرجينيا وولف، نحن، نساء كثيرات متفرقات، لا نعرف كيف يصل بعضنا إلى بعض، ضئيلات أمام سلطة جسيمة، مسكينات أمام هذا القدر القاهر، نساء غالباً ما ستموت قبل الوصول إلى أعلى النافذة حيث الهواء النقي، لكننا نساء ستموت حرات، ستموت إبان هذه الرحلة الشريفة العظيمة، سيمتن وهن في طريقهن إلى بعضهن البعض، ربما يكفي هذا ولو إلى حين. كل عام وأنتن بخير..

 







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي