كايولا كا لكو يعيد دورة التاريخ - محسن الذهبي

خدمة شبكة الأمة برس الإخبارية
2009-06-10
لوحة دورة التاريخ نموذج مهم لأسلوب الفنان الهنغاري في فرض الصور على بعضها لاعطائها بعداً جديداً والاستيحاء من موروثها.

صورت محطة سي ان ان في واحدة من افضل تغطياتها الاعلامية في الثالث من تشرين الاول 1993 ومن اعلى بناية قريبة، أولى لحظات الاقتحام النهائي الذي قام به الجنود الروس ضد البرلمان في موسكو وضد النواب المعارضين لاصلاحات الرئيس يلتسن واخذهم بقوة السلاح، اذ تابع العالم تلك الاحداث لحظة وقوعها فقد امر الرئيس بقصف المبنى التاريخي للبرلمان ليتقدم الجنود لاحتلاله طابقاً بعد طابق.

وعلى مسافة 7500 كم من ذلك المكان، وفي شقته في تورنتو الكندية راقب فنان معروف بتطرفاته السياسية في اوربا الشرقية تلك الاحداث طوال الليل كان ذلك هو الفنان "كايولا كا لكو" الذي انتقل منذ عام 1982 الى كندا هارباً من هنغاريا حاملاً معه ذكرياته لانتفاضة بودابست 1956 يوم اطيح بالحكومة المدعومة من السوفيت.

وتتلاحق الصور كما الاحداث لتنطبع كذاكرة مجردة غير واضحة المعالم فبعد سحق الجنود السوفيت للتمرد الهنغاري ثم صودرت اعمال "كايو كا لكو" ودخل السجن لثمانية عشر شهراً عقوبة له.

ورحل بعدها الى كندا آخذاً معه ذكريات رفاق له اقتيدوا من قبل الجنود في الليل ليقتلوا تلك الرؤى والاصداء نفسها عادت وبلمح البرق ومن النصف الاخر للارض وبسرعة الضوء لتستفز الكامن في روح الفنان ونسيج الانتماء الانساني رغم البعد الزماني والمكاني للاحداث فتتقرب كعدسة الكاميرا متسربة عبر تجاربه وهو الفنان الدارس لتاريخ الفنون والمتأهل في فن الكرافيك والأعمال الفنية.

ويأتي التفاعل بعد تلك المشاهد الدامية فيشرع الفنان كا لكو في رسم واحدة من اهم لوحاته على شكل مجموعة متصلة من اللوحات حيث يتزاوج فيها الماضي والحاضر لتتحول الاحداث الى صور.

فيرى الفنان تسلسل الاحداث ذاتها تكراراً مستنسخاً فيطلق على سلسلة اللوحات اسم "دورة التاريخ".

واقتحام البرلمان كان هو الحافز للبحث في الماضي البعيدعن مكافئ ذي قيمة فنية وجمالية موازية، فيجد ذلك المكافئ التاريخي في نقش بارز من حجر الكاس عمره اكثر من 4500 سنة قبل الميلاد من مدينة "لكش" السومرية جنوب العراق القديم.

وذلك النقش الذي ابدعه نحات عراقي مجهول الاسم خالد في فنه والذي اطلق عليه الباحثون "نصب النسور" او "مسلة العقبان" ليخلد انتصار الملك "أي أنا نم" حاكم مدينة لكش على اعدائه.

ويظهر في النقش الحجري طابور من الجنود المخوذين والذين تنتظم عيونهم وانوفهم المضخمة وبشكل جانبي كانتظام حرابهم ودروعهم، فيما تتناثر تحت اقدامهم جثث الاعداء المهشمة.

ولا يخفى على الفنان الفرق الكبير بين نصب النسور واحداث موسكو المنقولة عبر شاشات سي ان ان.

فالجنود هم الجنود لكن الفنان ميز ذلك ببعض التشابه الملتوي والمعبر في ذات الوقت بين تلك الممارسه السلطوية وتصويرها للحدثين تضمن تطبيقاً عملياً في دراسته لتاريخ الفن ولاجل اظهار البناء التحتي للعمل الفني، فيقسم الفنان عمله على شكل شبكة من المستطيلات ثم يعرض كل واحدة منها للاشعة السينية.

وبسبب تشوش حافة الصور بالاشعاع تتداخل تلك الصور في الشبكة، فالتخطيط النهائي للعمل الاصلي يبدو غير منسجم وذلك للاسلوب الذي طبقة "كا لكو" على قماش اللوحة في استرجاع الصورة بعد الاشعة السينية واخراجها ليس كصورة سالبة بل كصورة مطبوعة بالحجم الطبيعي وهنا يدخل الفنان في عالم مؤثر من المغايرة اذ ياخذ الشكل اللوني الواضح المعالم لثلاثة من الجنود الروس وهم بالحجم نفسه وفي نفس مواقع جنود لكش المنتصرين ويحشرهم في جانب من اللوحة وعلى شكل مستطيل ايضا لتبدو كاعلان ملون باز وسط اشكال متماثلة في الشكل ومتغايرة في اللون لتعطي بعدا من الايحاء والديمومة.

وهذه هي لوحة "دورة التاريخ" كمثال لأعمال الفنان واسلوبه في فرض الصور على بعضها لاعطائها بعداً جديداً والاستيحاء من موروث هذه الصور.

وتعد من اعماله المتميزة استعارته للوحة الفنان "بروكل" والمسماة "برج حكماء بابل" 1567م وكذلك لوحة الفنان "كودو رني" مجزرة الابرياء 1611 والتي صورت مذبحة الاطفال في بيت لحم بأمر من "هيرود".

ففي معالجة "كالكو" للوحة "بروكل" يضيف للشبكة ذات اللون الواحد التي تحفظ اللوحة صوراً لاخوان رايخ مان والامير تشارلز ورصيف الكناري في لندن، ومثل ذلك في لوحة الفنان "رني" حيث تسمح الشبكة للفنان ان يدخل جملاً مشفرة تحتية وبالالوان بحيث يتحول المشهد الانجيلي الى يوغسلافيا التسعينات من القرن المنصرم، اذ يظهر جندي صربي حاملاً على كتفه مصباحاً وتظهر علامة لشركة تجارية اميركية على ملابس المرأة التي يسرق طفلها من بين ذراعيها.

ان عنوان "دورة التاريخ" يظهر ايماناً عميقاً لدى الفنان بأن هناك سوء استخدام دائماً للسلطة والقسوة غير المبررة لدى كل الطغاة منذ ولد التاريخ وحتى يومنا هذا، اذ نلاحظ تلك الرؤيا السوداوية للحدث بشكل مثير رغم ان للوحاته قيمتها الفنية العالية وبالاخص من الناحية الاسلوبية.

اذ تفرض ان التشابه امر شاق في عرضه للاحداث، بحيث ان الاسلوب ينجذب الى دوائر مغلقة من التكرار.

والفنان هنا يفترض الاسلوب الاحتمالي التكاملي او التوحد في العمل؛ فيوحي بمبدأ تنظيمي مركزي حتى يتمكن من اظهار هذا التوحد بدون مفارقات، ثم ان التجزيء في لوحاته قد لا يكون جذرياً كما في اللوحات التكعيبية البناء والتي تقطع سياق الماضي والحاضر.

بل جاءت كخطاب امدارس ما بعد الحداثة في الفن رغم تميز ها باسلوب يحملها قوة مستقبلية، فاذا كانت لوحاته تقلد التلفزيون في تأطيرها المختار للمشاهد الاصلية.

فإن الانقطاعات في سطوحها "بين احادية اللون والتلوين التام" وتقادم مجال الرؤية الموحدة تحمل ازدواجية واضحة في تقليد الشاشات المؤطرة كالتلفزيون، ومقاومة هذا التقليد ذاته عبر مركز الجذب والانتباه في الجمال الصوري الذي تحتله وهذا يعوضها عن مبدأ الانتظام الذي يحكم سائر الاعمال الفنية الاخرى.
___________________________

كاتب عراقي مقيم في بريطانيا


 







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي