رعب متقن الأداء : اتصال هاتفي مجهول يقود إلى دوامة من العنف

2021-01-12

طاهر علوان*


يقوم الفيلم الكوري الجنوبي “مكالمة” على فكرة الرجوع إلى الماضي بغية التدخل في مسار أحداثه، ليدخل المشاهد حينذاك في دوامة من العنف والرعب والغموض والتشويق والتي تسهم في صنعها المؤثرات البصرية إسهاما رئيسيا. والفيلم هو إعادة إنتاج مبتكرة لقصة الفيلم البريطاني “المتصل” الذي عرض في العام 2011.

لم يبق من الزمن سوى آثار حريق، وندوب وجروح قديمة وذكريات مؤلمة، لكن أليس بالإمكان تحويل كل ذلك إلى سعادة غامرة وذكريات سعيدة؟

واقعيا يحيلنا كل هذا إلى مسألة الانتقال عبر الزمن وهو الذي شغل أدب الخيال العلمي وأعماله السينمائية، في اتجاه استخدام ذلك الانتقال بقصد تغيير المصائر والأقدار وتحويل مساراتها.

ونتذكّر هنا أفلاما مثل “القضاء والقدر” و”الحلقي” و”الوصول” و”شيفرة المصدر” و”جيش الظلام” و”الدكتور سترينج” و”حافة الغد”، وغيرها من الأفلام التي سبق أن كتبنا عنها.

وتأتي تجربة الفيلم الكوري الجنوبي “مكالمة” للمخرج لي تشونغ هيون، لتشكّل إضافة لافتة للنظر وجديرة بالاهتمام في مثل هكذا نوع من الأفلام.

على أن ميزة هذا الفيلم، الذي يعرض الآن على منصة نتفليكس، ونقاط ابتعاده عن سائر الأفلام التي أشرنا إليها آنفا هي امتزاجه بعنصري الجريمة والرعب واختلاط قضية التقدّم عبر الزمن بذلك الخليط المربك الذي ترك وراءه ضحايا كثرا.

ها نحن مع كيم (الممثلة بارك شين هاي) وهي متجهة نحو بيت أسرتها القديم الذي لم تزره منذ سنوات بعدما ترك لها ذكرى مؤلمة، هي مقتل والدها في حريق من جهة، وتفقّدها لوالدتها المريضة والراقدة في المستشفى من جهة أخرى.

تتفقّد كيم هاتفها المحمول وتتأكّد أنها قد فقدته في أثناء رحلتها بالقطار إلى بيت العائلة القديم، تدخل البيت المهجور لتعثر على جهاز هاتف لاسلكي يعود إلى ما قبل عشر سنوات، ومن هناك تتّصل بمن عثر على هاتفها، لكنها ستفاجأ بأن على الطرف الآخر امرأة تستنجد طالبة المساعدة لأنها تتعرّض لعمليات تعذيب من زوجة أبيها.

متاهة المصير المجهول

من هذه الحبكة الثانوية سوف يتم الانطلاق بالأحداث إلى مستويات أكثر تعقيدا، إذ سوف نكتشف أن على طرفي خط الهاتف هناك امرأتان يفصل بينهما حوالي عقدين من الزمن، ثم تكون المفارقة الأهم وهو أن ذلك المنزل الذي تقف على أرضه كيم ما هو إلّا المنزل نفسه الذي كانت تعيش فيه أوه يونغ سوك (الممثلة جيون جونغ سيوه)، ومن هنا تبدأ رحلة العلاقة بين الفتاتين وكل منهما تشارك الأخرى محنتها.

على أن وجود سوك في العام 1999 مقابل وجود كيم في زمننا الحالي سوف يكون عاملا كافيا يدفع كيم إلى التشبّث بأمل ولو ضئيل في تغيير مصير والدها ودرء الحريق والموت عنه، وهو ما تقوم به سوك فعلا، وتكون سببا في تغيير مسار الأحداث وعدم إصابة الأب بالحريق.

واقعيا نحن أمام دائرة زمانية شديدة التعقيد والتداخل، ومع مرور الزمن الفيلمي كان مسار السرد يتقدّم باتجاه تقريب الفاصل الزمني بين الفتاتين وهو ما برع فيه المخرج وكاتب السيناريو.

لكن ذلك الاقتراب أو اختصار الفاصل الزمني بين الشخصيتين سوف يقود من جهة أخرى إلى ما هو أسوأ دراميا، وذلك بسبب استمرار دوامة الانتقام التي تعصف بالفتاة سوك، والتي سوف تدفعها لاحقا وفي مشهد مؤثر إلى أن تقنع كيم ووالدها بدخول المنزل في زمن ماض، لتعدّ العدّة للانتقام وتزداد شراسة إلى درجة أنها تجهز على الأب وتحتجز كيم وهي طفلة ليتصاعد البناء الدرامي، حيث أن التلاعب بالزمن يبلغ ذروته وكل طرف يريد إثبات نفسه وسطوته على الآخر.


ثم لنعد إلى الأجواء البوليسية القاتمة وفي غمرة الفوضى التي أنشبتها كيم، وحيث تتحيّن الفرصة للانتقام ممّن تطوله يداها، فإننا أمام دائرة أخرى للصراع وأعمال التحري التي يقوم بها البوليس. لكن الحصيلة سوف تظهر أمام ناظري كيم وخلاصتها اعتقال سوك بعد ثبوت قيامها بقتل زوجة أبيها، هذه النتيجة هي التي طالبت سوك بمرارة من كيم أن تغيّرها. لكن الأزمة تكون قد أطبقت والنهاية وشيكة ولا سبيل للفكاك منها.

واقعيا نحن أمام سلسلة متعاقبة من التحوّلات في الدراما والأجواء المشحونة، ترافقها عمليات الانتقام واللعب بالزمن، ويبدو أن المخرج قد استفاد في تحقيقها من العديد من الأفلام التي تعالج هذه الإشكالية المركبة من اللعب بالزمن والتنقل عبره وتغيير المصير.

على الجانب الآخر قدّم الفيلم منظومة بصرية متكاملة سواء لجهة البراعة في التصوير وتنوّع زوايا وأماكن التصوير أو التنوّع في الإضاءة أو حركة الكاميرا، مضافا إلى ذلك معالجة اللون والانتقالات السلسة بين الأزمنة بما تطلبته من ديكور وإكسسوارات.

كما نلاحظ أن الفيلم تفوّق في تقديم قصة سينمائية متماسكة ومشوّقة من خلال بضع شخصيات تميز كل منها بالبراعة في التعبير وفي ردود الأفعال، لاسيما وأن الممثلين الذين شاركوا هم من الصف الأول في سينما كوريا الجنوبية وحصدوا العديد من الجوائز، وفي مقدّمتهم الممثلة بارك شين هاي التي قادت الأحداث ببراعة وتمكّن كبيرين.

 


*كاتب عراقي مقيم في لندن







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي