البحر يموج بالموسيقى في أوبرا دمشق

دمشق-وكالات:
2020-12-01

صفوان بهلوان يشدو بـ"النهر الخالد" ويمتع الجمهور

نضال قوشحة:

ابن البحر وسكين أمواجه وأحلامه وروحه التي لا تغادر جسده مطلقا، لا يكاد يبرح البحر حتى يعود إليه حضنا وحصنا ونبضا يزفّ الإبداع نغما وشعرا وصوتا. هو الموسيقار السوري صفوان بهلوان الذي قال عنه الشاعر السوري الراحل سليمان العيسى “صفوان يا وشوشات الموج صافية/ يا زرقة الأزل الغافي بأرواد”.

لذلك كان اعتلاؤه لمنصة دار أوبرا دمشق حدثا فنيا استثنائيا بسوريا، وهو الذي غنى بجميع دور الأوبرا العربية، ولم يكتب له الغناء بأوبرا بلده، ليكون صعوده الأول على منصتها علامة فارقة للدار.

قبالة ساحل مدينة طرطوس، تحديدا في جزيرة أرواد الصغيرة حيث المهد ومسقط الروح كانت بداية صفوان بهلوان الموسيقية. فوالده إبراهيم كان يعمل في صناعة قوارب الصيد. ومن البحر وصوت أمواجه وترنيمات البحارة في الصيد “هيلا هيلا” بدأت إيقاعات الموسيقي تسكن روحه ثم كانت إيقاعات مطارق صنع القوارب وتنوعاتها التي أكملت التكوين.

تعلم الموسيقى بنفسه في بداية الطريق ثم على يدي أستاذ في مدينته اسمه أحمد الحاج، نهل منه أسرار الموسيقى بشغف حتى لم يعد يملك ما يعلمه له، فغادر إلى مصر ليدرس في معهدها العالي للموسيقى ثم إلى ألمانيا ليدرس الموسيقى السيمفونية والتوزيع الأوركسترالي. كان حظه من التعليم الموسيقي عاليا ومتنوعا وهذا ما انعكس على موسيقاه.

مشروع متكامل

صفوان بهلوان ينشد "الصبا والجمال" لمحمد عبدالوهاب

يرى نقاد موسيقيون أن صفوان بهلوان يمتلك مشروعا موسيقيا متكاملا، فهو مطرب متمكن أولا، يقدّم الطرب العربي الأصيل بجدية، ساهم من خلال مسيرته الفنية بتكريس أعمال الموسيقار المصري محمد عبدالوهاب بشكل لافت، بحيث ذهب بها بعيدا إلى مناطق فنية أوركسترالية أضافت بعدا جديدا عليها.

وهو من جهة ثانية يقدّم موسيقى كلاسيكية أوركسترالية بعلومها وأشكالها سواء في بعض التآليف الشرقية التي اعتمد فيها طريقة التوزيع الأوركسترالي مثل “دوار يا بحر الهوى” أو “يا ليالي الشام” أو “جبهة المجد” أو من خلال بعض المؤلفات الموسيقية الأوركسترالية البحتة كما في عمله السيمفوني “الشراع والعاصفة” وبعض التآليف العربية الآلية.

صفوان بهلوان بعيد عن المشهد الغنائي والموسيقي العربي الدارج، كونه يحمل مشروعا خاصا بآفاق أكثر جدية وأعمق فكريا وجماليا. ولكن حضوره دائم في كل دور الأوبرا العربية، فقدّم حفلات في مصر والمغرب والكويت والإمارات وعمّان وتونس وبعض المدن الأوروبية، غير أنه رغم ذلك لم يغن في أوبرا دمشق سابقا، حتى كان الحفل الذي أقيم مساء السادس والعشرين من نوفمبر الماضي، فكان الموعد مع أول ظهور فني له في أوبرا بلده، ليقدّم للجمهور السوري حفله بمشاركة الفرقة الوطنية للموسيقى العربية بقيادة المايسترو عدنان فتح الله، ضمن فعاليات أيام الثقافة السورية التي تقيمها وزارة الثقافة.

  كان اعتلاؤه لمنصة دار أوبرا دمشق حدثا فنيا استثنائيا بسوريا، وهو الذي غنى بجميع دور الأوبرا العربية، ولم يكتب له الغناء بأوبرا بلده

عن السبب الذي أخّر حضوره في أوبرا دمشق حتى الآن، قال بهلوان لـ”العرب”، “دائما كنت أتمنى ذلك، أوبرا دمشق تعني جذري ووطني الذي فيه تربيت ونشأت وحريّ بي أن أقدّم فيه أجمل وأنبل ما لديّ، لكن الظروف المتعدّدة لم تكن تسمح بذلك، منها عدم وجود فرقة سيمفونية شرقية متكاملة كالفرقة الموجودة حاليا، والتي تمتلك سمعة طيبة وحرفية عالية. كما تسبّبت في ذلك بعض الأمور المتعلقة بتنظيم الوقت وتوفّر المكان وغيرهما. وأنا سعيد لأنني أخيرا في أوبرا دمشق، ومن على مسرحها أقدّم الفن الذي يطمح الجمهور الذوّاق إلى سماعه”.

وعن آلية العمل مع الفرقة وروح الانسجام الفني التي وجدها لديها كونها تقدّم أعمالا موسيقية تعتبر حديثة عليها، قال “الفرقة تتمتّع بمستوى عال والمايسترو عدنان فتح الله يتمتّع بقدرات كبيرة على قيادة الأوركسترا، وكلاهما عمل بجهد كي نخرج بنتيجة جيدة، بعض المؤلفات مثل (دوار يا بحر الهوى) فيها الكثير من التعقيد وفيها دقائق موسيقية شرقية وغربية، هي في الأصل متباعدة، لكن طريقة التأليف وضعتها في آلية منسجمة، ولا يقدّم هذا المستوى من الأداء إلاّ فرقة ذات كفاءة مثل الفرقة الوطنية للموسيقى العربية. وصراحة لم تكن لديّ خشية من تقديم هذه الأعمال مع الفرقة والمايسترو، وكان رهاني في مكانه”.

برنامج موسيقي مختلف

صفوان بهلوان: البحر هو ديدني الذي أعيش لأجله وفيه، بأمواجه وحكاياه

عن مفردات البرنامج الذي قدّمه وتكويناته الفنية، يقول الموسيقي السوري “أردت أن أقدّم مجموعة من الأعمال التي تحمل روح الموسيقى العربية والأوركسترالية معا. فقدّمنا في الحفل موسيقى آلية بحتة كي يعتاد الجمهور عليها، على غرار (سماعي راست) من تأليفي وكذلك مقطوعة (لونغا) التي حاولت فيها تقديم فن جديد على المستمع السوري بحيث لا تكون النغمة مكرّرة وبلا معنى”.

أما عن حضور البحر في فقرات الحفل، فيقول بهلوان “البحر موجود في كل حفلاتي، كونه كائنا ساكنا فيّ، البحر هو ماضيّ ويومي وغدي، هو ديدني الذي أعيش لأجله وفيه، لا يمكنني تصوّر فعل شيء دون وجود البحر، بأمواجه وأصواته وحكاياه. البحر حاضر من خلال أغنية (دوار يا بحر الهوى) التي قدّمتها منذ سنوات خلت. والتي أوجدت فيها تحديا موسيقيا كبيرا، فكانت موسيقاها شرقية ولكنها مركبة وفق علوم الأوركسترا في أعلى درجاتها، وفيها النغم الشرقي بتوزيع غربي”. وهذه الأغنية سمعها الناقد الراحل صميم الشريف وهو موسيقي أجنبي، فقال عنها أنها مؤلف موسيقي ينتمي لذاته ليس قبله شيء مشابه.

ويتذكّر بهلوان أن الشريف قال له حين سمعا الأغنية سوية أن فيها هارموني غريب غير معروف وكأن الفنان السوري أوجد هارموني خاصا به. ويقول بهلوان “ألّفت هذه الأغنية للبحر الذي هو حضن آوي إليه في الشدائد. فرغم كل ما قد يسبّبه البحر من ألم لا يمكنني أن أقول عنه إنه غدّار لا يمكن أن يكون البحر دوّارا، متغيرا، متلاطما، ربما يأخذ بعضا من أحبابنا ومالنا، ولكنه أيضا يأتي بهم من بعيد ويقدّم للناس وللحياة الخير والجمال والفن. البحر عالم كبير فيه حياة ومغامرات وجمال وحب”.

  الفنان السوري بعيد عن المشهد الموسيقي العربي الدارج، كونه يحمل مشروعا خاصا بآفاق أكثر جدية وأعمق فكريا وجماليا

وبكثير من الاهتمام تابع جمهور من متذوّقي الفن العربي الأصيل حفل صفوان بهلوان، فرغم حالة الحظر الجزئي القائم بسبب وباء كورونا، فإنه جاء ليستمع إليه في أول ظهور له في دمشق. وعلى امتداد الحفل الذي قارب التسعين دقيقة قدّم بهلوان برنامجا موسيقيا كان مستهله “سماعي راست” من تأليفه ثم قصيدة معروفة له عنوانها “ليالي الشام” وهي من تأليف الأديب الإماراتي سلطان عويس وألحان بهلوان. أما ثالثة الفقرات فكانت أغنية الموسيقار محمد عبدالوهاب الخالدة “الصبا والجمال” من شعر الأخطل الصغير بشارة الخوري. ثم قدّم أغنية “طيور الحب” التي كانت من تأليفه الشعري.

وبعدها غنى موال “أشكي لمين” ثم أغنية “يا دنيا يا غرامي” الشهيرة، ليغادر المسرح متيحا للفرقة الموسيقية أن تقدّم “لونغا صفوان” وهي مقطوعة سريعة ثرية وحيوية. ثم حضرت أجواء البحر بأغنية “دوار يا بحر الهوى” وهي من زجل عبدالسلام حجاب، لينهي برنامج الحفل بأغنية “النهر الخالد” من شعر محمود حسن إسماعيل وألحان وغناء الموسيقار محمد عبدالوهاب أغنية تفاعل معها جمهور القاعة بشكل كبير، ما استدعى إعادة بعض مقاطعها مرات ومرات.







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي