حصار داخل حصار.. كيف تضخمت معاناة تربية الأولاد في غزة؟

مصدر: Raising kids in Gaza was hard enough. Then came a lockdown within the lockdown.
2020-09-15

نشرت صحيفة «واشنطن بوست» الأمريكية مقالًا أعدَّه الصحافي الفلسطيني حازم بعلوشة ليروي فيه المشكلات التي تواجهه أثناء تربية ولديْه في قطاع غزة الذي يقع بين مطرقة حصار إسرائيل وسندان تفشي جائحة فيروس كورونا.

يقول الكاتب في بداية مقاله: «في وقت متأخر من ليل غزة، كان آدم وكرم، ابناي الصغيران، نائمَيْن. ولكن أصوات القصف كان مدوِّية، إذ استهدفت الطائرات الإسرائيلية مواقع عسكرية تابعة لحركة حماس. وكنتُ كعادتي أخشى من أن توقظهما الضوضاء أو تُخِيفهم. ولكن عندما تفقدتُهُما، وجدتُهما يغُطَّان في نوم عميق».

حصار داخل حصار

يقول الكاتب: لن يكون هناك مكان آخر يذهبان إليه إذا استيقظا. ولأول مرة منذ بداية جائحة فيروس كورونا، يُوضع سكان غزة كافة البالغ عددهم مليوني مواطن في حجر صحي في منازلهم لإبطاء وتيرة التفشي المتزايد للجائحة. وتقتصر تحركاتنا عادةً داخل الـ140 ميلًا مربعًا في غزة، بسبب الحصار من جانب البحر المتوسط من جهة، وحصار الجيش الإسرائيلي من جهة أخرى. ولكن الآن نظرًا لأن الطائرات تقصف في الخارج على مدار 20 ليلة متواصلة، لا يمكننا حتى مغادرة منازلنا، نحن عالقون في حصار داخل حصار.

ومنذ أشهر سجَّلنا نحو 100 إصابة فقط بفيروس كورونا في غزة، جميعها من بين المقيمين العائدين من الخارج والذين دخلوا إلى الحجر الصحي على الفور. ولكن في 24 أغسطس (آب)، سُجِّلت أولى الحالات المصابة من مصدر مجهول، في مخيم المغازي للاجئين المكتظ للغاية، وخضعت غزة لقيود الحظر الكامل في تلك الليلة تحديدًا. ومنذ ذلك الحين سجلنا أكثر من ألف و400 حالة محلية.

من الجميل أن تكون أبًا. ولكن في غزة يشكل الأمر أيضًا صعوبة من نوع خاص. وهذا ما ثبتت صحته منذ أن وُلِد آدم قبل 10 سنوات: كان هذا قبل شهرين حتى قبل أن ألتقي به؛ لأن الحصار الذي فرضته إسرائيل على غزة كان يعني أنني لا أستطيع أن أكون بصحبة أمه، روبا، عندما ولدته في الضفة الغربية، حيث تعيش العائلة.

تساؤل لا يجد إجابة

ويتساءل الصحافي الفلسطيني: «هل سأكون قادرًا على حمايته وتوفير حياةً هنيئةً له على أرض غزة المحاصرة؟»، راودني هذا التساؤل وأنا أنظر بإعجاب في عيني ولدي الصغير. وخلال العقد الماضي، لم يفارقني هذا التساؤل. وكانت حلقة التصعيد المستمرة بين إسرائيل وحماس، المجموعة المسلحة التي تحكم غزة تعني مزيدًا من ليالٍ تعج بعمليات القصف والحروب الشاملة.

كورونا يتفشى في غزة

وفي الآونة الأخيرة أطلقتْ حماس ومجموعات مسلحة أخرى قنابل بالونية حارقة تتسبب في إشعال النار في المجتمعات والمزارع الإسرائيلية المجاورة. وترد إسرائيل كل ليلة على ذلك بتفجير المرافق التابعة لحماس. وهذه هي الخلفية العنيفة لحياتنا.

نام الولدان، وأشعلتْ الأنوار كي أقرأ. نحن محظوظون لأن بإمكاننا تحمل نظام الطاقة الشمسية الخاص بنا الذي يوفر نحو 70% من احتياجاتنا المنزلية. ويقضي عديد من جيراني في مدينة غزة، وتقريبًا جميع الـ600 ألف شخص الذين يعيشون في مخيمات اللاجئين الثمانية في غزة، وقت الحجر في الظلام غالبًا.

ويشير الكاتب إلى أن الجيش الإسرائيلي دمَّر محطة الطاقة الرئيسة في غزة في حرب عام 2006. وفي أفضل الأوقات، لا يتوفر لنا التيار الكهربائي سوى ثماني ساعات يوميًا مع تناوب انقطاعه عبر المناطق المجاورة. ولكن منذ ثلاث أسابيع، وردًا على إطلاق البالونات، منعتْ إسرائيل شحنات الوقود عن آخر محطات الطاقة في غزة. ومع بدء ارتفاع تفشي الجائحة في أواخر أغسطس، تتوفر الكهرباء في غزة لمدة أربع ساعات فقط يوميًا.

العالم ينكمش مرةً أخرى

وأردف الكاتب قائلًا: إن حصارنا في المنزل وحصارنا أيضًا في منطقتنا الساحلية أمر مزعج للغاية. وإن إحدى الطرق التي تحافظ على قواك العقلية بينما تعيش تحت الحصار هي أن تتنقل حيثما يمكن ذلك، وأن تجتمع مع زملائك من أهالي غزة على المقاهي أو في المساجد أو على الشاطئ. وفي المخيمات، ترتكز الحياة الاجتماعية على العائلات والأصدقاء والاجتماع على الأرصفة وفي مداخل الشقق. والآن ينقطع حتى ذلك الاتصال بالمجتمع العادي.

ومثل أي مكان خضعتْ غزة للقيود التي فرضها فيروس كورونا لمدة أشهر، إذ أُغلِقَت المطاعم أو اقتصرت على إعداد الأطعمة الجاهزة. كما أُغلِقَت المساجد والكنائس. ولكن وُضِع كل مَنْ دخل غزة عبر نقاط التفتيش في حجر صحي لمدة ثلاثة أسابيع، ولذلك ظل عدد الإصابات منخفضًا.

ويستطرد الكاتب قائلًا: «عاد ولداي إلى المدارس في الأسبوع الثاني من أغسطس، بعد غياب دام خمسة أشهر. وبدأ الفصل الدراسي مبكرًا على أمل أن يكون بإمكان الأطفال تعويض ما فاتهم. كان ولداي متحمسَيْن للعودة إلى المدارس ورؤية زملائهما. كما حققا إنجازات تستحق المشاركة: إذ فاز كرم بالحزام الأصفر في الكاراتيه، وتعلم آدم مهارات جديدة في كرة القدم. وتُعد المدرسة إحدى الأماكن القليلة في غزة التي تبدو فيها الحياة طبيعية».

وفي غضون أسابيع توقفتْ الفصول الدراسية مرةً أخرى نظرًا لارتفاعٍ مفاجئٍ في حالات الإصابة الجديدة. وكانت الغارات الجوية مستمرة كل ليلة، وكانت الجائحة تقترب، وكان عالمنا آخذًا في الانكماش مرة أخرى.

ويفتقد الأطفال المدارس بقدر ما يفتقدها آباؤهم. والآن أصبحت معظم ألعابهم على البلاي ستيشن. وتتمثل حياتهم الاجتماعية عندما يكون بإمكان أبناء أعمامهم الانضمام إليهم عبر الإنترنت لبضع ساعات على لعبة «فورتنايت».

وربما يكون من الجيد أنهم ما زالوا صغارًا على أن يفهموا طبيعة الصراع وضغط الجائحة عليهم. ونحن قادرون على ملء فراغهم طوال الوقت. وعندما تُتاح لنا حرية التحرك، نمنحهم حياة ثرية بمعايير غزة، وذلك من خلال التوسع في زيارة العائلات والأصدقاء والمدارس والأماكن العامة.

أريد أن أحميهم، ولكن الواقع في غزة يجعل هذه المهمة تبدو على نحوٍ متزايد وكأنها مهمة مستحيلة.

التكنولوجيا.. نعمة أم نقمة

ويوضح الكاتب قائلًا: يتعلم آدم وكرم دروسًا كل يوم تتعلق بمدى اختلاف حياتهما عن حياة الشباب الذين يرونهما على شاشات أجهزتهما الذكية. ويسألانني عن موعد السفر لرؤية جدتهما في الضفة الغربية، الأمر الذي يمكن أن يتطلب التخطيط له أشهرًا؛ إذ يجب الحصول على تصاريح من إسرائيل، وأحيانًا من حماس والسلطة الفلسطينية، حيث تقيم الجهات الثلاثة نقاط تفتيش على المعبر الوحيد (معبر إيريز) المخصص للأشخاص الفلسطينيين في قطاع غزة (لا يمكنهم الخروج من القطاع إلا عبر هذا المعبر فقط). ويمكن ألا توافق جهة منهم على العبور، وهو ما تفعله إسرائيل غالبًا.

والآن، ذهبت تلك الاحتمالية في مهب الريح.

إن التكنولوجيا نعمة تفتح أذهان صغيريَّ وتوسع نطاق معرفتهما. ولكن يمكن أيضًا أن تكون نقمة في الأماكن المحاصرة مثل غزة، ذلك أن كثيرًا مما نراه، لا يمكن أن نفعله. والأماكن التي نشاهدها على الإنترنت لا يمكننا الوصول إليها أبدًا. وإنني أفكر بشأن أصدقائي الذين حصلوا على منح للدراسة في الخارج لكنهم لم يستطيعوا مغادرة غزة لحضور هذه المنح.

وبالنسبة لكثير من سكان غزة، يُمثِّل الذهاب إلى شاطئ البحر أبعد سفرٍ بالنسبة لهم، حيث نروِّح عن أنفسنا وسط نسائم البحر المتوسط وننظر إلى عالم مُغلَق علينا.

ولكن هذه غزة وهذا حالها، حتى اليوم الذي نريد أن نقضيه على الشاطئ يمكن أن تُعقِّده الصراعات. ولا يوجد ما يكفي من الكهرباء لتشغيل محطات معالجة النفايات ولا يمكننا السباحة بسبب مياه المجاري غير المعالجة التي تُضَخ في البحر.

وفي إحدى الأمسيات التي سبَقتْ فرض الحظر بأيام قليلة، اصطحبتُ ولداي إلى الشاطئ. وعادةً ما ينتابني شعور بالألم واللذة في وقت واحد عندما أجلس معهما، وأشاهدهما يلعبان، ولكني أعلم أنهما سيجريان نحو الشاطئ ويعودان، ويسألانني كل خمس دقائق فيما إن كان بإمكانهما السباحة. ويجب أن أقول لا، لا يمكنكما السباحة.

ويؤكد الكاتب أنه بعد وقت قليل من تفشي الجائحة، تفاوضتْ إسرائيل وحماس على اتفاقية أخرى لوقف إطلاق النار، بوساطة قطرية. وتوقفتْ البالونات والقنابل الآن: وتتوفر لنا الكهرباء لمدة أربع ساعات لإضاءة حجرنا الصحي.

ولقد تعلمنا من التجربة أن هذا الهدوء بمثابة الهدوء الذي يسبق العاصفة. ومن بين الحصارين، سيكون الحصار الذي سبَّبه الفيروس، أول حصار تنفكُ عنَّا قيوده. ولا يمكننا سوى أن ندعوا بأن يكون بإمكاننا الحفاظ على سلامة أطفالنا حتى يحين ذلك.

ويختتم الكاتب مقاله بالقول: عندما ينتهي الحجر الصحي، سنعود إلى الشاطئ سعيًا وراء واحدة من الملذات المتاحة لنا. تلك هي حياة أب غزاوي، وهو يعيش دوامة من التوتر والإغاثة واليأس والبهجة. وسيكون الأطفال سعداء عندما يمرحون على الرمال، وسأقول لا للسباحة، وسأنتظر كعادتي يومًا أستطيع أن أقول فيه نعم للسباحة.







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي