هل تنجح إيطاليا في هزيمة أقوى وأشرس منظماتها الإجرامية؟

مصدر: Can Italy Defeat Its Most Powerful Crime Syndicate?
2020-09-08

نشرت مجلة «ذي أتلانتك» الأمريكية مقالًا لريتشل بوناديو، كاتبة صحافية في المجلة وتغطي شؤون السياسة والثقافة في أوروبا، عن مقابلة أجرتها مع نيكولا جراتيري، قاضٍ إيطالي مهتم بمكافحة مافيا ندرانجيتا التي تُعد من أخطر جماعات الجريمة المنظمة في إيطاليا.

وفي البداية تقول الكاتبة إنها ذهبت إلى مطار لاميزيا تيرمي في إقليم كالابريا الإيطالي العام الماضي لمقابلة القاضي نيكولا جراتيري. وكرَّس جراتيري العقود الثلاثة الماضية من حياته لمحاربة منظمة تُعرف باسم «ندرانجيتا» Ndrangheta ومقرها كالابريا، وهي أغنى وأقوى مجموعة إجرامية سرية في إيطاليا اليوم. وتعني الكلمة أساسًا «الرجل الشريف»، ويُعتقد أنها مشتقة من كلمة يونانية تعني «البطولة». وقد أضفى فيلم الأب الروحي طابعًا رومانسيًّا على مافيا كوسا نوسترا في صقلية، كما أصبحت مافيا كامورا معروفة على نطاق واسع من خلال فيلم «جومورا» ومسلسل يحمل الاسم نفسه. لكن ندرانجيتا الأقل شهرة بينهم هي الأكثر عدوانية.

وأوضحت الكاتبة الانتشار الواسع لندرانجيتا في شمال إيطاليا الثري، حيث تزدهر المنظمة بفضل الحصول على عقود الدولة وخاصة في مجال البناء، وتعمل في 31 دولة أخرى في جميع أنحاء العالم؛ منها: أوروبا، والولايات المتحدة، وكندا، وكولومبيا، وأستراليا. وخارج إيطاليا، تضم مدينة تورنتو الكندية أكثر المواقع التابعة لندرانجيتا. وتتمتع المافيا بعلاقات ممتازة مع الجماعات الإجرامية في أمريكا اللاتينية، والتي تستورد منها الكوكايين الذي يُقال إنها تسيطر على أكثر من نصف سوقه في أوروبا. وانتهزت المافيا فرصة تفشي جائحة كورونا لتقدم المساعدة للشركات الصغيرة كما قدَّمت نقودًا للعاطلين. وبحسب صحيفة «فايننشال تايمز»، استحوذت المنظمة على أموال الصحة العامة في كالابريا؛ مما أدَّى إلى نتائج كارثية للنظام الصحي في الإقليم.

ويركز جراتيري على مكافحة هذه المنظمة، حيث ساعد في تدبير عملية محكمة في عام 2014، أطلق عليها اسم «الجسر الجديد»، والتي أوقع فيها مكتب التحقيقات الاتحادي الأمريكي وعملاء إيطاليون بعصابة مخدرات تابعة لندرانجيتا تعمل في ثلاث قارات. وصادرت السلطات ألف رطل من الكوكايين الخام. وفي ديسمبر (كانون الأول) 2019، ألقت الشرطة الإيطالية، بالتنسيق مع جراتيري، القبض على 334 شخصًا من المحامين ورجال الأعمال والمحاسبين وقائد شرطة ورئيس جمعية ورؤساء بلديات كالابريا وعضو سابق في البرلمان الإيطالي بتهمٍ تتعلق بنشاط ندرانجيتا، بما في ذلك القتل والابتزاز. وستُنقَل المحاكمة من روما إلى محكمة كبيرة في كالابريا من أجل استيعاب جميع المتهمين والمحامين المدافعين عنهم.

وتروي الكاتبة أنها كانت تقف خارج المطار عندما انطلق جراتيري بسرعة في سيارة، تتبعه حراسة من ضباط يرتدون ملابس مدنية. وسألته عما إذا كانت هذه سيارة مصفَّحة، فقال: «نعم بالطبع». وبعد اعتقالات ديسمبر، زوَّدته الحكومة بمدرعة ثقيلة لحمايته.

وُلد جراتيري في عام 1958 في بلدة جيراتشي الصغيرة في كالابريا. وكان يدير والده محل بقالة صغير، بينما كانت والدته تهتم بالمنزل والأسرة. وعندما كان صبيًّا، كان يدرك أن هناك شيئًا ما خطأ في هذا الركن من العالم. وذات مرة، مرَّ بجثة ملقاة على الطريق وهو في طريقه إلى المدرسة.

وركبتُ مع جراتيري سيارته التي كان يقودها بسرعة كبيرة على الطريق السريع وفي طريقنا إلى روما، حيث كان سيعقد عددًا من الاجتماعات. وكان بإمكانه الذهاب بالطائرة، لكنه يحب القيادة، ويقول إنها تمنحه إحساسًا نادرًا بالحرية.

أجسام مضادة للجريمة

وتلفت الكاتبة إلى أن جراتيري أخبرها أنه كان محظوظًا لأنه نشأ في أسرة صالحة ذات قِيم. يقول: «كان لدينا أجسام مضادة» للجريمة. ويضيف: «كنت أرى أمام المدرسة أطفالًا أعضاءً في مافيا ندرانجيتا، وكانوا يتصرفون بالفعل كأعضاء المافيا الصغار، ولذا فكرت أنه يجب عليَّ تغيير هذه الأمور عندما أكبر». وذهب إلى الجامعة في كاتانيا بصقلية، وبعد التخرج خضع لامتحان الدولة الصعب ليصبح قاضيًا، وهي الوظيفة التي تولاها في عام 1986.

وفي عام 1989 بدأ التحقيق في مقتل رجل أعمال محلي قُتِل بعد عشاء خاص حضره أيضًا عديد من السياسيين. وكان رجل الأعمال هذا يبني سدًا على بحيرة، لكن لم يكن هناك ماء في البحيرة. ولم تكن هناك مناقصة علنية وخلُص جراتيري إلى أن رجل الأعمال فَقَدَ بطريقة ما حظوته مع الرؤساء المحليين. وبعد مدة وجيزة من اكتشاف جراتيري للعقد الخاص بالسد الذي لا وجود له، أطلق أحدهم النار على نافذة منزل صديقته. وبالرغم من أنها تزوجته، إلا أن جراتيري يبدو عازفًا عن مناقشة التفاصيل المتعلقة بأسرته التي تحظى مثله بحماية الشرطة.

وفي عام 1992 قُتِل اثنان من ممثلي الادِّعاء المناهضين للمافيا في باليرمو بصقلية في تفجيرات بسيارات مفخخة، إلى جانب أفراد من الشرطة المرافقين لهما وزوجة أحدهما. وكانت الهجمات من بين أكثر الهجمات دراماتيكية ورعبًا في تاريخ إيطاليا بعد الحرب العالمية الثانية. وترأس الرجلان محاكمة شهيرة ضد المافيا في صقلية بدأت في عام 1986. وانتشرت صور المتهمين، الذين بلغ عددهم 366، وهم محتشدون في القفص في قاعة المحكمة، في كل مكان. وأُدِين في المحاكمات المئات من أفراد المافيا.

وسألتُ جراتيري كيف غيَّرت الاغتيالات إحساسه بالوضع في إيطاليا، فأخبرني أن كوزا نوسترا (مافيا صقلية) ارتكبت خطأً فادحًا: كشفت الاغتيالات أن تأثير التنظيم «كان أكبر بكثير وأعمق بكثير» مما كان يعتقده أي شخص؛ إنها مثلت تحديًا وجوديًا للدولة. وكانت إستراتيجية المنظمة المتمثلة في حرب شاملة ضد الدولة بمثابة «بداية نهاية كوزا نوسترا» وبداية جديدة أكثر هدوءًا واهتمامًا بالتسلل إلى المؤسسات من قتل ممثلي الادِّعاء والقضاة.

ندرانجيتا أكثر دهاء

تعلمت ندرانجيتا أن تكون أكثر دهاءً وألا تسعى إلى مواجهة مباشرة مع السلطات. يقول جراتيري: «إنها تبحث دائمًا عن نقاط اتصال وأرضية مشتركة مع الأشخاص والمؤسسات»، وهذا ما يمنحها القوة. والمنظمة متغلغلة في نسيج الاقتصاد والحياة السياسية الإيطالية. وفي جميع أنحاء الجنوب الإيطالي، يعقد المرشحون لشغل منصب وطني صفقات مع المجرمين ليشجعوا الناس على التصويت لهؤلاء المرشحين. وقد حُلَّت مجالس مدن بأكملها بسبب تسلل ندرانجيتا إليها.

لقد أثبتت ندرانجيتا أنه من الصعب على الادِّعاء تدميرها؛ لأن هيكلها التنظيمي قائم على روابط الدم. أما في منظمات المافيا الأخرى، فالهيكل أكثر مرونة، ويمكن أن ينفصل الأعضاء بسهولة. وتاريخيًّا كان هناك قلة قليلة من أعضاء ندرانجيتا خانوا أسرهم. ومن بين أكثر من ألف شخص أصبحوا شهودا للدولة في قضايا الجريمة المنظمة الإيطالية في السنوات الأخيرة، هناك حوالي 15% أعضاء في ندرانجيتا. لكن هذا الوضع يتغير ببطء، كما تشير الاعتقالات الجماعية في ديسمبر، والتي استندت جزئيًّا إلى معلومات من داخل المنظمة.

ميلاد ندرانجيتا

ظهرت ندرانجيتا في كالابريا في القرن التاسع عشر، حيث كان الاقتصاد الإقطاعي في المنطقة يتراجع أمام قوى الرأسمالية. وفي السنوات الأولى، عمل أعضاء التنظيم لصوصًا وقُطَّاع طرق، قبل أن يتوسعوا في عمليات التهريب والابتزاز والاختطاف. ومن أشهر عمليات الاختطاف عملية ج. بول جيتي الثالث، في عام 1973. ودفع آل جيتي فدية حوالي 3 ملايين دولار بعد أن أرسل الخاطفون أُذُنه المقطوعة إلى العائلة بالبريد. وولدت ندرانجيتا الحديثة في ثمانينات القرن الماضي، عندما تحوَّلت إلى الاتِّجار في الكوكايين، تاركةً تجارة الهيروين الأقل ربحًا لكوزا نوسترا.

وفي إيطاليا، تبيع ندرانجيتا الكوكايين لجماعات إجرامية أخرى – غالبًا ألبانية أو نيجيرية – والتي بدورها تبيعه في الشارع، وبهذا تبقى المنظمة بعيدًا عن الساحات وتركز على طرق أكثر تعقيدًا لكسب المال، مثل نهب أموال الاتحاد الأوروبي المخصصة للزراعة والبنية التحتية. وفي الوقت نفسه فإن حقيقة أن الأجانب يبيعون المخدرات في الشوارع في جميع أنحاء إيطاليا يُعد عاملًا رئيسًا في شعبية حزب الرابطة اليميني وخطابه المناهض للهجرة «الإيطاليون أولًا».

ومع ذلك فإن المنظمة على أتم الاستعداد لتلطيخ أيديها، ففي عام 2012 حُكِم على ستة رجال بالسجن مدى الحياة في إيطاليا لقتلهم امرأة كانت تتعاون مع الشرطة ضد ندرانجيتا. وفي عام 2015 أُلقيَ القبض على شاب يبلغ من العمر 22 عامًا لأنه أمر بقتل والدته، بدعوى أنه عقاب لها بعد أن أقامت علاقة عاطفية مع رئيس عشيرة منافسة من ندرانجيتا.

وسألتُ جراتيري: كيف تقدم أدلة لرفع دعوى ضد منظمة مثل ندرانجيتا؟ فأجاب: أمضي سنوات غارقًا في تفاصيل الجرائم والاعتقالات والأحكام والطعون والشخصيات وغيرها. إنه يحمل في ذهنه موسوعة عن هذه المنظمة، حيث أمضى جراتيري وفريقه أربع سنوات في جمع الأدلة الخاصة بالقضية التي أدَّت إلى الاعتقالات الجماعية في ديسمبر. واستخدام التنصت على المكالمات الهاتفية والتصوير الحراري الأرضي الذي يمكن من خلاله الكشف عن مخابئ تحت الأرض والتعاون الوثيق مع وكالات إنفاذ القانون في جميع أنحاء العالم وفهم قواعد المنظمة وطقوسها.

ومن الصعب تدمير ندرانجيتا في الخارج. ويمنح القانون الإيطالي ممثلي الادِّعاء مثل جراتيري أدوات قوية لمحاربة الجريمة المنظمة. ويمكنهم طلب مصادرة الأصول أثناء التحقيق مع شخص بتهمة «الانتماء إلى المافيا»، وهي فئة واسعة لا توجد في أي مكان آخر في أوروبا أو في الخارج. ويستمتع جراتيري باستجواب الناس، ويتسم بالهدوء والتركيز والاحترام إلى جانب الغموض. وأحيانًا يسعى لبناء الثقة مع المجرمين. وشاهدتُ مقطع فيديو على يوتيوب لجراتيري وهو يتحدث مع واحد من أكبر المجرمين الذين أوقعهم في شباكه وهو روبرتو بانونزي، الرجل الذي أقام علاقات بين ندرانجيتا وكارتل ميدلين (منظمة إجرامية كولومبية).

بابلو إسكوبار الإيطالي

وألمحت الكاتبة إلى أن بانونزي، الذي يُطلق عليه أحيانًا «بابلو إسكوبار الإيطالي»، قد اعتقل لأول مرة في كولومبيا عام 1994، بتهمة تهريب المخدرات. وبعد تسليمه إلى إيطاليا، حصل على إعفاء طبي وفرَّ من البلاد. وفي عام 2004 تعقبته السلطات الإيطالية في إسبانيا، وسُلِّم إلى إيطاليا مرة أخرى، وذهب جراتيري لرؤيته. وقال له: «ستقضي 30 عامًا في السجن، لذلك لا يمكنك فعل أي شيء حيال ذلك». فأجاب بانونزي، «لا يا دكتور، سأخرج. لدي كثير من النقود حتى أنني يمكن أن أغطيك أنت وهذا المارشال بالنقود. يمكنني دفنك داخل النقود». وبالفعل هرب بانونزي مرةً أخرى في عام 2010 بزعم أنه يعاني من مشاكل في القلب، ونقل إلى الاحتجاز في مستشفى، ثم فرَّ هاربًا.

وتعقبته السلطات الإيطالية مرةً أخرى في عام 2013، وهذه المرة في كولومبيا. وسُلِّم إلى إيطاليا مرةً أخرى، وسافر جراتيري إلى روما ليستقبله. وتحدث الرجلان وكأنهما صديقان قديمان. وصوَّر شخص ما اللقاء ونشره على الإنترنت. شاهدت الفيديو مرارًا وذُهلت من الألفة المتبادلة. ولأن جراتيري نشأ في كالابريا، فهو يعرف خصومه جيدًا. ويتضح من الفيديو أن جراتيري وبانونزي كانا يفهمان بعضهما البعض، وعلى مستوى ما كانا يحترمان بعضهما البعض. وأخبرني جراتيري فيما بعد عن اللقاء: «كان يفهم مدى سلطاتي».

يعيش جراتيري في مجمع مسوَّر تحيط به الكاميرات وتحرسه الشرطة. وينسق كل خطوة مع مرافقته من الشرطة ويخبر زوجته بالحد الأدنى، ويسافر باستمرار. ويخلد إلى النوم بحلول الساعة 10 مساءً. وغالبًا ما يستيقظ في تمام الساعة 2:30 صباحًا لبدء العمل. زرتُ جراتيري ذات يوم في قاعة المحكمة في كاتانزارو. وكان الناس يطرقون الباب المقاوم للرصاص، وكان ينظر في شاشة المراقبة قبل السماح لهم بالدخول.

رجل في قفص

ونوَّهت الكاتبة إلى أن جراتيري يسعى إلى كشف الهيكل التنظيمي لندرانجيتا – كيف تقيم المنظمة روابط مع السياسيين والمؤسسات والمصالح الاقتصادية وعناصر أخرى في المجتمع الإيطالي – تمامًا كما كشفت محاكمة المافيا في باليرمو عن كيفية عمل كوزا نوسترا. يقول أنطونيو نيكاسو، الخبير في ندرانجيتا الذي يدرِّس في جامعة كوينز في أونتاريو: «قوة المافيا تأتي بالأساس من علاقاتها الخارجية؛ رأس المال الاجتماعي المستمد من قدرتها على فرض الروابط وبناء الشبكات الاجتماعية».

وعندما اقتربنا من روما في رحلتنا في ذلك اليوم، ذكرتُ لجراتيري أن أحد القضاة في كالابريا أخبرني أنه كان خائفًا من بعض العناصر في المؤسسة الإيطالية المناهضة للمافيا أكثر من خوفه من المافيا نفسها. وهذه الملاحظة، التي ألقيت عفويًّا تقريبًا، ظلت تردد في ذهني. وتشير الملاحظة إلى أن إيطاليا مكان مظلم، حيث الأشخاص الذين تعتقد أنهم في جانب بعينه يساعدون الجانب الآخر في الواقع، حتى لو كان ذلك من خلال غض الطرف فحسب. ويدرك جراتيري أن ندرانجيتا تحاول التأثير بأي شكل على القضاة.

وعندما سألتُ جراتيري عن الأسباب الدافعة لاستيقاظه كل صباح والقيام بهذا النوع من العمل، مع العلم أنهم يريدون قتله، قال: «كل شيء له ثمن». وقال إنه لم يذهب إلى أي مكان دون حماية الشرطة منذ عام 1989. ولم يذهب إلى السينما منذ 30 عامًا. ومنزله عبارة عن قلعة تخضع لمراقبة شديدة، لكن داخل الجدران لديه حديقة نباتية، حيث يزرع الطماطم، والباذنجان، والريحان.

واختتمت الكاتبة مقالها بقول جراتيري: «أنا رجل في قفص، مثل أي متهم في محاكمة خاصة بالمافيا. لكني رجل حر، أنا حر في اختياراتي، حر في التفكير والتحدث عن رأيي». وتابع: «أستطيع أن أقول ما لا يستطيع الآخرون أن يسمحوا لأنفسهم بقوله؛ لأن شؤونهم ليست مرتبة، إذ يمكن ابتزازهم، لأنهم خائفون، لأنهم جبناء».







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي