توترات تزداد عمقًا.. إلى أين تتجه العلاقات بين الصين وأوروبا؟

مصدر: Cracks in China-Europe Relations Run Deep
2020-09-05

النظرة الشاملة على تطور العلاقات الأوروبية الصينية منذ تسعينيات القرن الماضي تبين لنا أن التوترات التي نشبت مؤخرًا بين الطرفين تدفعها عوامل هيكلية أعمق، ولذلك ستستمر هذه التوترات على الأرجح.

نشرت مجلة «ذا ديبلومات» مقالًا لـ لورينز هيمنجا، تناول فيه أبعاد التصدعات التي أصابت العلاقات الأوروبية الصينية خلال الأعوام الثلاثين الماضية، وتحديدًا منذ حادثة ساحة (تيانانمن)، وما هو مستقبل هذه التصدعات في ضوء التدهور الأخير الذي أصاب العلاقات الأمريكية الصينية؟

وفي البداية، أشار الكاتب، وهو طالب دكتوراة في العلاقات بين الاتحاد الأوروبي والصين في قسم الدراسات الآسيوية والدولية بجامعة «سيتي» في مدينة هونغ كونغ، إلى أن التدهور السريع الذي شهدته العلاقات الأمريكية الصينية كان سببًا في زيادة الاهتمام بما أشار إليه مقال نُشر مؤخرًا في مجلة «ذا ديبلومات» بعنوان «المسرح الأوروبي في الحرب الباردة الناشئة».

وأننا إذا نظرنا إلى العلاقات الأوروبية الصينية منذ تسعينيات القرن الماضي سنجد أن التوترات التي نشبت بين الطرفين مؤخرًا تدفعها عوامل هيكلية أعمق، ولذلك ستستمر هذه التوترات على الأرجح. وعلى الرغم من الأهمية العسكرية المحدودة التي يتمتع بها الاتحاد الأوروبي في آسيا، إلا أن ثقله الاقتصادي يعني أن بإمكانه الاضطلاع بدور حاسم في توازن القوى العالمي، اعتمادًا على مدى ميله نحو الولايات المتحدة أو الصين.

وتزداد المواقف الأوروبية من الصين تشددًا في جميع أنحاء القارة، بما في ذلك البلدان الرئيسة مثل ألمانيا. وتميل المقالات الإخبارية التي تتناول هذا الموضوع إلى الإشارة إلى الأخطاء الدبلوماسية الأخيرة التي ارتكبتها الصين، بدءًا من «دبلوماسية الذئب المحارب» سيئة السمعة إلى «دبلوماسية القناع» التي لا تلقى استحسانًا كبيرًا منذ تفشي مرض كوفيد-19، فضلًا عن الاستنكار الأوروبي لقانون الأمن القومي الذي فُرِض على هونج كونج.

الاقتصاد الصيني والمصالح التجارية الغربية

ولفت الكاتب إلى أنه في حين سحق الجيش الصيني المظاهرات التي اندلعت في ساحة تيانانمن ببكين عام 1989، فرضت دول المجموعة الاقتصادية الأوروبية الإثني عشر -سلف الاتحاد الأوروبي- إلى جانب بقية العالم الغربي عقوبات على بكين وقدمَّت لها مطالب مختلفة لم يكن من المحتمل أن يُستجاب لها أبدًا.

وأدرك الزعيم الصيني في ذلك الوقت، دينج شياو بينج، على نحو صحيح أهمية الجاذبية التي يمثلها الاقتصاد الصيني بالنسبة للمصالح التجارية الغربية في رسم السياسة المُتَّبعة في التعامل مع بلاده. وحث القيادة على الثبات والاعتماد على رجال الأعمال الأجانب للضغط على حكوماتهم لتحسين العلاقات مع الصين. وقد نجحت هذه الاستراتيجية بصورة ملحوظة مع الحكومات الأوروبية، فبعدما أعادت جولة دينج الجنوبية -التي قام بها عام 1992- الإصلاحات الاقتصادية إلى مسارها الصحيح، انطلقت التجارة بين الصين والاتحاد الأوروبي وتدفقت الاستثمارات الأوروبية على الصين.

وكان تأثير هذا الأمر على السياسة واضحًا، إذ تخلت الحكومات الأوروبية عن العقوبات وركَّزت على تعزيز العلاقات الاقتصادية. وفي عام 1997، كَتبَ الاتحاد الأوروبي ما يُمكن اعتباره السطر الأخير في سياسة حقوق الإنسان في مرحلة ما بعد تيانانمن. وعرَّضت الدنمارك وهولندا -اللتان لم تحصلا على دعم معظم دول الاتحاد الأوروبي الأخرى- نفسيهما للخطر بتقديمهما اقتراحًا ينتقد الصين في مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة.

وبعدما فشل الاقتراح هدَّدت الصين بالانتقام. واشتكت مجموعات الأعمال في كلا البلدين من سياسة حكومتيهما تجاه الصين، لدرجة أن رئيس منظمة أرباب العمل الرئيسة في هولندا ذهب إلى حد المطالبة علنًا بإجراء «مناقشات» مع الحكومة بشأن التعامل مع القضايا الحساسة. وفي السنوات التي تلت ذلك، تحولت قضايا حقوق الإنسان في الغالب إلى «حوار غير منطقي حول حقوق الإنسان»، في حين بنى الاتحاد الأوروبي والصين واحدة من أهم العلاقات الاقتصادية في العالم.

آثار انضمام الصين إلى منظمة التجارة العالمية

وألمح الكاتب إلى أن هذا حدث في وقتٍ كانت تعتقد الحكومات الأوروبية فيه -كما ادَّعى الرئيس الأمريكي بيل كلينتون- أن الصين ستواصل الإصلاح إلى أن تتحول إلى اقتصاد السوق الحر. وحققت الشركات الأوروبية العاملة في الصين أرباحًا، لكنها كانت كثيرًا ما تشعر بالإحباط بسبب القيود الواسعة المفروضة على عملياتها، وعدم وضوح اللوائح التنظيمية، والحماية غير الكافية لحقوق الملكية الفكرية الخاصة بها.

بيد أن هذه المشاكل كانت بمثابة مصادر إزعاج مؤقتة يمكن معالجتها من خلال الإصلاحات الجارية، والتي ستصبح بدورها أكثر تحديدًا بانضمام الصين إلى منظمة التجارة العالمية عام 2001. وبعد أن أبرم الاتحاد الأوروبي اتفاقية انضمام الصين إلى منظمة التجارة العالمية في مايو (آيار) 2000، قال كبير مفاوضي الاتحاد الأوروبي، باسكال لامي، لمجلس الأعمال الصيني البريطاني:

«إن انضمام الصين إلى منظمة التجارة العالمية سيُحسن وصول شركات الاتحاد الأوروبي إلى السوق الصينية إلى حد كبير، وستنخفض تكاليف التصدير إلى الصين، لأن قيمة التعريفات الجمركية والقيود غير الجمركية ستنخفض بشكل حاد. وستتعزز حوافز الاستثمار في الصين من خلال بيئة أعمال أكثر جاذبية وأكثر قابلية للتنبؤ».

وأفاد الكاتب أن التوقعات المنتظرة من تنامي حجم المعاملات التجارية مع الصين وتزايد سهولتها كانت بمثابة محرك قوي في رسم السياسات الملائمة لهذه المعاملات في عواصم الاتحاد الأوروبي، وكذلك في بروكسل، في تسعينيات القرن الماضي والعقد الأول من القرن الحالي.

وبطبيعة الحال، كانت هناك مشاكل في العلاقة، سواء تلك التي واجهتها الشركات الأوروبية أو تلك المشاكل الناجمة عن الاهتمام العام الدائم بحالة حقوق الإنسان في الصين. بيد أن التوقعات العامة التي سيطرت على النخب السياسية هي أن هذه الأمور ستُحَل بمرور الوقت، وأن التعامل مع الاتحاد الأوروبي من شأنه أن يساعد في دفع الصين نحو الاتجاه الصحيح. ووفقًا لدراسة نقدية أجريت عام 2009، فقد أسفر هذا الأمر عن تطبيق سياسة «مشاركة غير مشروطة».

وجهة استثمارية جذابة

وإذ تقدمنا سريعًا حتى عام 2020 سنجد أن الوضع قد تغير، كما يرى الكاتب. وأن الصين لا تزال بلا شك وجهة جذابة للشركات الأوروبية، إذ وجدت الدراسات الاستقصائية الأخيرة التي أجرتها غرفة التجارة الأوروبية في الصين حول ثقة قطاع الأعمال أن ما يقرب من 60% من المشاركين ذكروا أن الصين ستظل إحدى الوجهات الثلاثة الأولى بالنسبة للاستثمارات الحالية والمستقبلية. ومع ذلك، فقد وجدت الدراسات أيضًا أن نصف المشاركين يعتقدون أن البيئة التنظيمية ستزداد سوءًا خلال السنوات الخمس المقبلة بالرغم من وعود القيادة الصينية المتكررة بمواصلة الانفتاح.

وقد انخفضت تدفقات الاستثمار الأجنبي المباشر الأوروبي إلى الصين بعد عام 2013. وبات الاستثمار الصيني المتزايد في الاتحاد الأوروبي منذ عام 2012 موضع شك بقدر ما هو موضع ترحيب، إذ يُنظر إلى الاستثمار الصيني -الذي غالبًا ما تموِّله البنوك الحكومية في إطار برامج حكومية مثل برنامج «صنع في الصين 2025» و«مبادرة الحزام والطريق»- باعتباره ذا دوافع سياسية محتملة ويهدف لإفساد السوق.

وأوضح الكاتب أن مجموعات الأعمال المؤثرة، مثل اتحاد الصناعات الألمانية (BDI) واتحاد الأعمال الأوروبي (Business Europe) ومراكز الدراسات مثل معهد مركاتور للدراسات الصينية (MERICS)، نشرت أبحاثًا تحث صناع السياسات على إيلاء المزيد من الاهتمام للتحدي طويل الأجل الذي يشكله النموذج الاقتصادي الصيني الذي تقوده الدولة.

ولخَّصت ورقة بحثية صدرت عام 2019 المشكلة على النحو التالي: «بالنسبة لثقل الصين ووزنها في النمو العالمي الهامشي، باتت التشوهات وأوجه القصور التي تعتري السياسيات -والتي كانت مقبولة في السابق- تشكل الآن تحديات وجودية لنظرائها الأجانب». وفي الوقت نفسه، فإن إعلان الصين مؤخرًا عن الحد من القيود المفروضة على المستثمرين الأجانب لم يرقَ مرةً أخرى إلى مستوى التوقعات.

نقطة شائكة

وألمح الكاتب إلى أنه في الوقت نفسه، يبدو أن ثمة انتعاشًا متواضعًا في اهتمام الاتحاد الأوروبي بحقوق الإنسان والقضايا ذات الصلة، إذ تشير ردود الأفعال الأوروبية على الوضع في هونج كونج -وإن لم تكن حادة كتلك التي عبَّرت عنها الولايات المتحدة- إلى أنه من غير المرجح أن يوافق الاتحاد الأوروبي على اعتبار أن هذه مسألة داخلية تخص الصين فقط.

وانتقد الاتحاد الأوروبي علنًا أيضًا اضطهاد الإيغور، مشيرًا إلى أنه نظرًا لخطورة ما يحدث في إقليم شينجيانج، فقد يبدو هذا الأمر غير مفاجئ، ولكن في العقد الماضي ربما تحوَّلت هذه الانتقادات إلى محادثات على مستوى العمل وأُجرِيت خلف الأبواب المغلقة فقط.

كما ثبت أن قضايا حقوق الإنسان الأقل شهرة تمثل أيضًا نقطة شائكة، فقد أدَّت قضية بائع الكتب السويدي المختطف جوي مينهاي إلى تدهور كبير في العلاقات الصينية السويدية، وذلك على الرغم من الجهود الخلاقة التي تبذلها الصين لحل المشكلة. ولا تزال قضية التبت القديمة -التي كانت بمثابة مصدر إزعاج للعلاقات بين عديد من الدول الغربية والصين في مطلع هذا القرن- مُدرجة على جدول الأعمال، حيث أُنشئِت مؤخرًا مجموعات جديدة لدعم التبت في برلمانات جمهورية التشيك والسويد وليتوانيا وفرنسا.

واستبعد الكاتب احتمالية انضمام الاتحاد الأوروبي والدول الأعضاء فيه إلى الولايات المتحدة في تكرار الحرب الباردة، فقد استمرت الحكومات الأوروبية والاتحاد الأوروبي في التأكيد على أن الصين لا تزال تُعد شريكًا مهمًا سواء في التعاون الثنائي أو في معالجة القضايا العالمية مثل تغير المناخ. وأضاف أن أوروبا تتسم بالتعددية، وتميل بعض دولها -مثل اليونان وإيطاليا والمجر- في الغالب على نحو إيجابي نحو الصين. ومع ذلك، من الواضح أن العلاقات بين الاتحاد الأوروبي والصين تسير على مسار منحدر لأسباب تتجاوز المساعي الأمريكية الأخيرة والدبلوماسية الصينية الخرقاء.

واختتم الكاتب مقاله قائلًا إن هذا الأمر يعني أن قيام وزير الخارجية الصيني وانج يي بحملة دبلوماسية ساحرة منفردة لن يؤثر على الأرجح تأثيرًا كبيرًا في وقف التدهور في علاقات بلاده مع أوروبا. أما بالنسبة للولايات المتحدة، فإن ذلك يعني إيجاد أرض خصبة للتنسيق مع الأوروبيين بشأن القضايا ذات الاهتمام المشترك، شريطة أن تختار الإدارة المقبلة أن تكون أقل عداءً تجاههم.







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي