«الطبق النظيف».. هذا ما تفعله الصين لمكافحة إهدار الطعام

مصدر: Xi Declares War on Food Waste, and China Races to Tighten Its Belt
2020-08-31

نشرت صحيفة «نيويورك تايمز» الأمريكية تقريرًا للمراسلتين، إيمي كين وبيلا هونج، تناولتا فيه الحملة الجديدة للحزب الشيوعي، والتي تستهدف تجنب إهدار الطعام في ضوء الظروف الجارية الناجمة عن جائحة فيروس كورونا، والتي قد تضعف قدرة الصين على تأمين احتياجات شعبها من الغذاء.

جاء في مستهل التقرير أن الأجهزة الرقابية الصينية أهابت بالقائمين على برامج البث المباشر الذين يتناولون الطعام بشراهة، ويروجون للاستهلاك المفرط له، ألا يهدروا الطعام وأن يتوقفوا عن هذه الممارسات. وقالت إحدى المدارس إنها ستمنع الطلاب من التقدم للمنح الدراسية في حال تجاوزت بقايا طعامهم اليومية مقدارًا محددًا، في حين وضع أحد المطاعم ميزانًا إلكترونيًّا عند مدخله لوزن الزبائن قبل الدخول في محاولة لإثنائهم عن طلب كثير من الطعام.

ليس الإسراف وحسب.. الأمن الغذائي في خطر

ولفت التقرير إلى أن ذلك جاء بعد إعلان الزعيم الصيني، شي جين بينج، الحرب على إهدار الطعام الذي وصفه «بالصادم والمحزن»؛ ما جعل الناس يتسابقون لإجابة الدعوة حتى أن بعضهم أفرط في استجابته على نحو أكبر من غيره. ولطالما سعى الحزب الشيوعي الحاكم إلى إظهار السيد «شي» بصورة الزعيم المحارب للإسراف والشراهة في المؤسسات الرسمية، لكن هذه الدعوة الجديدة للانضباط في تناول الطعام موجَّهة إلى الشعب، وتحمل معها حاجة مُلِّحة خاصة؛ إذ قال السيد «شي»: عندما يتعلق الأمر بالأمن الغذائي، فعلى المواطنين الصينيين أن يشعروا بأن هناك أزمة بسبب المثالب التي أظهرتها جائحة كورونا. وقال السيد «شي» في توجيهٍ نشرته صحيفة «بيبلز دايلي» الرسمية: «نريد تنمية عادات الاقتصاد، والتدبير، وتثبيت دعائم بيئة اجتماعية يكون فيها الإسراف معيبًا، والتدبير أمر يستحق الثناء».

وتوجيه السيد «شي» عبارة عن جزء من رسالة أوسع أرادت القيادة السياسية إيصالها في الأسابيع الأخيرة حول أهمية الاعتماد على الذات، خاصة في هذه الأوقات التي تشهد توترات مع الولايات المتحدة وغيرها من الشركاء الاقتصاديين. وما يقلقهم اليوم هو تعطل الاستيراد الناجم عن الاضطرابات الجيوسياسية العالمية، والجائحة، والتوترات التجارية، مع إدارة ترامب، بالإضافة إلى الفيضان المهلك الذي أصاب الصين هذا العام، والذي قد يؤدي إلى توقف الإمدادات الغذائية.

ولكن كغيرها من التعليمات الصادرة من الإدارة العليا، أثارت هذه التوجهات الغامضة موجة من التكهنات؛ إذ تحركت وسائل الإعلام الحكومية بسرعة لتهدئة الذعر بشأن النقص الوشيك في الغذاء. وأفادت بأن الصين شهدت مؤخرًا حصادًا وفيرًا من الحبوب، وسجلت إنتاجًا مرتفعًا منه. فيما قوبلت الدعوة في أحيانٍ أخرى بإجراءات خرقاء، فسرعان ما أثار المطعم الذي بادر بتنفيذ فكرة وزن الزبائن قبل الدخول إليه موجة ردود عنيفة؛ ما اضطره إلى الاعتذار خلال عطلة نهاية الأسبوع. وقال المطعم: «كان هدفنا الدعوة إلى عدم إهدار الطعام، وأن يطلب الناس طعامهم بطريقة صحية» وأضاف: «لم نجبر الزبائن أبدًا على وزن أنفسهم».

إهدار الطعام أحد مظاهر الكرم في الثقافة الصينية

وقد أصابت حملة «الطبق النظيف» التي أطلقها السيد «شي» قلب ثقافة الطعام في الصين؛ إذ جرت عادة الصينيين أن طلب أطباقٍ متنوعة وكثيرة، وترك المتبقي من الطعام، يُعد وسيلة لإظهار الكرم للأقارب والعملاء وشركاء العمل والضيوف المهمين، وفقًا للتقرير.

وفي حين ساهمت هذه العادة في إهدار طعام يتراوح حجمه من 17 إلى 18 مليون طن سنويًا، وهي كمية يمكن أن تُطعِم من 30 إلى 50 مليون شخص لمدة عام وفقًا لدراسة أجرتها الأكاديمية الصينية للعلوم والصندوق العالمي للطبيعة.

وتُعد دعوة السيد «شي» تحذيرًا من مخاطر الإسراف، ولكنها انعكاس جلي أيضًا للتغير في القيم الذي ظهر مع ارتفاع مستويات المعيشة. وقد تبدو حملات التقشف في غير محلها في الصين الحديثة، حيث تزدحم المدن بناطحات السحاب ومراكز التسوق والسيارات الفاخرة، إلا أنها كانت شائعة في عصر «ماو تسي تونج» عندما حثت صحيفة «بيبولز ديلي» المواطنين على «تناول وجبتين فقط في اليوم على أن تكون إحداهما من السوائل، أو المأكولات اللينة».

وتنقل المراسلتان تجربة وانج يكين، وهي سيدة متقاعدة تبلغ من العمر 79 من مدينة هاربين شمال شرق الصين، التي تتذكر سنوات المجاعة التي عجَّلت بها حملة «القفزة العظيمة للأمام» الكارثية لماو في الأعوام في بين 1958 و1962. وكان ماو قد أمر الفلاحين في تلك الحملة أن ينظموا أنفسهم داخل كميونات (مجموعة من الأفراد يعيشون سويًّا، ويتشاركون الممتلكات، والموارد) وبناء أفران فولاذية في الأفنية الخلفية من أجل اللحاق بركب الغرب؛ مما أدَّى إلى تراجع الإمدادات الغذائية بسبب هذه القرارات، وبالغ المسؤولون كذبًا في الإعلان عن مقادير المحاصيل الزراعية، وعض الجوع بنابه حوالي 45 مليون شخص وفقًا لبعض التقديرات.

وقالت السيدة وانج: «خلال تلك السنوات لم يكن هناك كثير طعامٍ لتناوله سوى لب البنجر» – يشيع استخدامه لإطعام الخيول والماشية – ممزوجًا بشِعْرية الذرة الحلوة. وعلى الرغم من وفرة الطعام الآن، لا تستطيع وانج التخلص منه، وقالت إنها ذات مرة استعادت بعض الفطائر التي ألقى بها أطفالها في سلة المهملات وغسلتها ثم أكلتها. وعبَّرت السيدة في لقاء عبر الهاتف: «هذه الحملة رائعة حتى وإن كانت تبدو بسيطة، فمن الجيد توفير واط واحد من الكهرباء، أو حتى قطرة واحدة من الماء».

وعلى العكس من السيدة وانج، يتبنى عديد من جيل الشباب في البلاد، مثل سامانثا بان التي تبلغ من العمر 21 عامًا وهي طالبة تعيش في مدينة جوانزو جنوب الصين، الفكر المتحرر من القلق بشأن توفير الطعام ليومٍ ماطر، وأن درهمًا تدخره هو درهم تكسبه، ولا يهتمون كثيرًا بالنصائح الأخلاقية التي تقولها الدولة. إذ قالت السيدة سامانثا في مقابلة معها عبر الهاتف: «هذا النوع من المبادرات ممل للغاية وغير مُجدٍ، يحق لي أن أطلب القدر الذي أريده من الطعام، وإن كنت أحب إهدار الطعام فلا تزال هذه حريتي».

تحديات الأمن الغذائي

يذكر التقرير أن قضية الأمن الغذائي اكتسبت أهمية أكبر لدى السيد «شي» في الوقت الحالي نظرًا لما تمر به الصين من أزمات متداخلة بما فيها الاقتصاد المتزعزع والفيضانات الشديدة التي خلَّفت مساحات شاسعة من الأراضي الزراعية في البلاد مغمورة بالمياه. وارتفعت أسعار المواد الغذائية بنحو 13% في يوليو (تموز) الماضي مقارنةً بالعام الماضي، وفقًا للإحصاءات الرسمية. وارتفع سعر لحم الخنزير أيضًا، وهو الطعام الأساسي لعدد من العائلات الصينية، بنحو 85% خلال الفترة نفسها. ويعود جزء من ذلك إلى الفيضانات التي أثَّرت على الإنتاج والنقل.

ووفقًا لتقرير نُشر يوم الاثنين في صحيفة «تشاينا يوث ديلي» المدعومة من الحزب، أقر مزارعو مقاطعة خنان بوسط الصين، وهي منطقة مهمة لإنتاج الحبوب، بتخزين كثير من محاصيل الحبوب هذا العام على أمل بيعها بسعر أعلى لاحقًا. ومع تصاعد التوترات مع دول أخرى، كان الحزب يستعد لإمكانية خضوع الصين لعزلة دولية، ولذا سعى الحزب إلى التأكد من قدرة البلاد على إنتاج ما يكفي من الغذاء لإطعام 1.4 مليار شخص. وقال خبير الاقتصاد السياسي المقيم في بكين، هو شينجدو: «في البيئة المثالية تكون العلاقات الدولية جيدة جدًّا؛ ما يمكِّن الصين من استيراد المواد الغذائية بحرية من البلدان الأخرى. ولكن من الناحية العملية قد تواجه الصين بعض المشاكل الكبرى».

وقال يو تشيانج، المحلل السياسي المقيم في بكينئ إن «الجائحة والفيضانات تذكِّرنا بالتحديات التي واجهها أباطرة الصين الذين اعتمدت شعبيتهم إلى حد كبير على قدرتهم المتصورة على الحفاظ على التناغم بين الإنسان والطبيعة».

ومن خلال اتخاذ خطوات استباقية للاستعداد لنقص الغذاء، أظهر السيد «شي» أنه يدرك حجم التحديات التي تمثلها هذه الأزمات، والتي إن تُرِكت بلا رقابة، ستؤثر على صورته بصفته حاكمًا يمسك بزمام السلطة، حسبما أفاد السيد «يو». وأضاف: «ولذلك يلقي «شي» بالمسؤولية على عاتق الناس، ويطلب منهم الاقتصاد في تناول الطعام».

لكن بعض أصحاب المطاعم مترددون في تحمل تكلفة حملة «الطبق النظيف» التي أطلقها السيد «شي». يقول السيد جيمي زانج، صاحب مطعم هوم ستايل في مدينة ليني بمقاطعة شان دونج الشرقية، إنه يدعم الدعوة التي أطلقها السيد «شي» ولكنه لا يريد أن يشجع الزبائن على طلب طعام أقل. وأردف قائلًا: «ما تروج له الدولة أمر جيد، ولكن السياسات بعيدة جدًّا عني بصفتي مواطنًا» وأضاف: «إن تكاليف الإيجار ورواتب الموظفين آخذة في الارتفاع، ولا توجد طريقة يمكن من خلالها دعمهم دون خسارة المال».

مدونو البث المباشر أول المتضررين

وسلط التقرير الضوء أيضًا على التساؤلات التي أُثيرت حول نموذج الأعمال الذي اتخذ له مكانًا مخصصًا في إنترنت الصين؛ حيث حقَّق القائمون على برامج البث المباشر الشهرة من خلال تسجيل مقاطع فيديو حية لأنفسهم أثناء تناول كميات هائلة من الطعام. ويجذب مدونو الفيديو المعروفين باسم «big stomach kings / ملوك المعدة الكبيرة» حشودًا من المعجبين ويعتمدون على هذه البرامج لتأمين دخلهم. وفي هذا الصدد انتقد المذيع الذي يعمل في قناة «سي سي تي ڤي» المملوكة للحكومة هذه البرامج في تعليقٍ حديثٍ له قال فيه: إن «البث المباشر جيِّد، لكن لا تجعلوا الطعام أساسًا له».

وقالت أكبر منصات الفيديو القصير ووسائل التواصل الاجتماعي في الصين – بما فيها تطبيق دويون (Douyin)، النسخة الصينية من «تيك توك»، وتطبيق كويشو (Kuaishou) – إنها ستعاقب المستخدمين الذين يعرضون إهدار الطعام في برامجهم. واختتمت المراسلتان تقريرهما مع فيديو جديد نشرته مُدوِّنة فيديو تُعرف باسم «Big stomach mini»، والتي تناولت ذات مرة خروفًا مشويًّا بالكامل في وجبة واحدة، على صفحتها على مواقع التواصل الاجتماعي الأسبوع الماضي حثَّت فيه متابعيها على التلذذ بكل قضمة من الطعام، ومن ثم أخذ بقايا الطعام إلى المنزل. وتلقى هذا الفيديو رسائل دعم من المتابعين بلغت 11 مليون رسالة. وقالت المدوِّنة التي غيَّرت اسمها منذ ذلك الوقت إلى اسم أكثر تقشفًا ليصبح «Dimple mini»: «لا حرج في تناول المأكولات اللذيذة، لكن من فضلك لا تكن مسرفًا، ولا مبذرًا».







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي