حتى كاتدرائية نوتردام لها أصول إسلامية!

تاريخ السرقة الأوروبي من العالم الإسلامي

2020-08-19

منذ عام تقريباً اجتاحت النيران كاتدرائية نوتردام، وناح الآلاف حزناً على فقدان هذه المنارة العظيمة للحضارة الأوروبية. كان الدخان يتصاعد من ذلك الرمز المطلق للهوية الثقافية الفرنسية، الذي يمثل قلب الأمة، لكنَّ أحداً لم يلاحظ أثر العمارة الإسلامية في هذه الكنيسة!

لكنّ ديانا دارك، الخبيرة في شؤون الشرق الأوسط، كانت لديها أفكارها المختلفة، فقد كانت تعلم أنّ أصول هذه الكاتدرائية القوطية المَهيبة ليست في السجلات الخالصة للتاريخ المسيحي الأوروبي، كما افترض الكثيرون دائماً، ولكن في صحاري سوريا الجبلية، وتحديداً في قريةٍ تقع غربيّ حلب.

فالتصميم المعماري لكاتدرائية نوتردام، مثل كل الكاتدرائيات القوطية في أوروبا، يأتي مباشرة من كنيسة قلب لوزة في سوريا، التي تعود إلى القرن الخامس الميلادي. لقد أحضر الصليبيون مفهوم "البرجين التوأمين المحاطين بنافذةٍ دائرية على شكل وردة" إلى أوروبا في القرن الـ12. وفق ما نشرته صحيفة The Guardian البريطانية.

ويشار عادةً إلى العمارة القوطية باعتبارها العمارة الأوروبية التي انتشرت بداية من القرن الحادي عشر وحتى القرن الرابع عشر الميلادي.

العمارة القوطية

تشير ديانا دارك إلى أنه ليس فقط البرجان التوأمان والنافذة الدائرية في الكنائس القوطيّة اللذان ترجع أصولهما إلى الشرق الأوسط، ولكن أيضاً العقود المعمارية المضلَّعة والأقواس المدببة، وحتى النوافذ الزجاجية الملونة كلّها تعود إلى المشرق الإسلامي.

إنّ العمارة القوطية كما نعرفها تدين بالفضل إلى التراث العربي والإسلامي، أكثر بكثير مما تدين به إلى القوط الأوروبيين. تقول دارك: يبدو أن هناك فجوة كبيرة من الجهل الأوروبي حول تاريخ الاستيلاء الثقافي. على خلفية تصاعد ظاهرة الإسلاموفوبيا، اعتقدت أن الوقت قد حان ليقوم شخصٌ ما بتصويب تلك السرديات الزائفة.

وهكذا ألّفت كتابها Stealing from the Saracens، وقدّمت بحثاً دقيقاً يلقي الضوء على قرونٍ من "الاقتراض المعماري الأوروبي من الشَّرق". ويتتبَّع جذور المباني الرئيسية في أوروبا بدايةً من مجلسي البرلمان، ودير وستمنستر في لندن، إلى كاتدرائية شارتر في فرنسا، وكاتدرائية سانت مارك في مدينة البندقية، وتعود بها إلى سوابقها في الشرق الأوسط.

تقول دارك: لدينا الآن فكرة الشرق والغرب، لكن في ذلك الوقت لم يكن الأمر كذلك، كانت هناك تبادلات ثقافية ضخمة، وجاء معظمها من الشرق إلى الغرب، القليل جداً ذهب من الغرب إلى الشرق.

ونظراً لانتشارها في الكاتدرائيات الكبرى في أوروبا، فمن السهل أن نتخيَّل أن الأقواس الحجرية المدببة والعقود المعمارية المضلَّعة المرتفعة هي من أصلٍ مسيحي، لكنَّ الأقواس يعود تاريخها إلى مزارٍ إسلامي من القرن السابع في القدس، سنحكي عنه بعد قليل، بينما العقود المعمارية بدأت في مسجد من القرن العاشر في الأندلس بإسبانيا.

ويمكن لزوَّار كاتدرائية قرطبة أن يتعجَّبوا من أقواسها المتعددة المتقاطعة في تحفةٍ هندسية عملية وهيكل زخرفي، والتي لم تحتج أبداً إلى إصلاح رغم وجودها الذي دام ألف عام، لقد صُممت المقصورة الرئيسية المقببة -جزء المسجد المخصص للخليفة الحاكم- لإلقاء وهجٍ مقدَّس على القائد.

مع ذلك، سيخبرك المنشور الرسمي التعريفي لكاتدرائية قرطبة بالقليل عن الأصل الإسلامي للمبنى، فقد أصبح المسجد الجامع بقرطبة كنيسةً كاثوليكية منذ عام 1236 بعد أن كان مسجداً.

كانت بداية القوس المُدبَّب حلاً عملياً لمشكلة واجهها البنَّاؤون العاملون في مسجد قبة الصخرة في القدس، باعتباره أحد أقدس المواقع في العالم الإسلامي، وقد بُني مسجد قبة الصخرة عام 691 على يد الخليفة الأموي عبدالملك بن مروان.

كان التحدي هو في كيفية ترتيب ممرٍ خارجيّ من الأقواس المستديرة مع ممرٍ داخليٍّ أصغر، مع الحفاظ على سقفٍ أفقيٍّ بينهما.

ومن أجل محاذاة الفتحات، كان على البنّائين إعطاء الممر الداخلي أقواساً أكثر إحكاماً لكي تصبح مُدببة. وفي مكانٍ أعلى في قبة الصخرة يمكن رصد عالمٍ آخر، حيث تحيط القبة بممر من الأقواس ثلاثية الفصوص، وهو نمطٌ قوسيٌّ من ثلاثة فصوص استمر في تغطية كل كاتدرائية أوروبية تقريباً، وجرى تبنيه بشراهة كرمزٍ للثالوث المقدس.

تقول دارك في كتابها: مراراً وتكراراً، لقد اندهشت كثيراً من مقدار هذه الأشياء التي نعتقد أنها مسيحية وأوروبية في الأساس، وكان اعتقادنا مبنياً على الجهل وسوء التفسير لأشكالٍ إسلامية سابقة. وتشير إلى أن التأثير الهائل لمسجد قبة الصخرة يعود إلى صليبيي العصور الوسطى، الذين اعتقدوا خطأً أن المبنى كان معبد سليمان.

وقد بدأت الحملات الصليبية على المشرق الإسلامي عام 1097، عندما دعا بابا الفاتيكان الممالك الأوروبيين لاسترداد "المدينة المقدسة- القدس" من المسلمين. وقد استمرت الحروب مع الصليبيين طيلة قرنين من الزمان، عندما أخرج المماليك الصليبيين من آخر حصنٍ لهم في عكّا عام 1291.

وقد كانت تلك الحروب الصليبيّة أكبر احتكاك بين المشرق الإسلامي والغرب الأوروبي، ومنها استطاع الأوروبيون نقل الكثير من الحضارة الإسلامية الوافرة في تلك الفترة، من العلوم والمعمار والثقافة والفنون، ما كان بدايةً للنهضة الأوروبية الحديثة بعدها بقرونٍ قليلة.

ولقد استخدم الصليبيون الذين أتوا إلى المشرق الإسلامي التصميم الدائريّ المُقبَّب في مسجد قبّة الصخرة، الذي افترضوا أنه ضريحٌ مسيحيّ كنموذجٍ لكنائس الهيكل (مثل كنيسة المعبد المستديرة في مدينة لندن)، بل ونسخوا النقش العربي المزخرف، الذي يوبخ المسيحيين علانية للإيمان بالثالوث بدلاً من وحدانية الله.

واستمرت أنماط الخط الكوفيّ العربيّ لتُزيِّن الأعمال الحجرية للكاتدرائية الفرنسية وحواف المنسوجات كثيرة الثراء، دون أن يدرك أحد ما تعنيه بالفعل.

انتشر هذا الارتباك أكثر من خلال أوَّل خريطة مطبوعة للقدس نُشرت في ماينز بألمانيا عام 1486. ​​فلم يقتصر الأمر على تسمية مسجد قبَّة الصخرة على أنه معبد سليمان، ولكنها صوَّرت المبنى بقبَّةٍ بصليةٍ (تشبه البصلة) رفيعة.

ووفقاً لدارك، فقد أصبح هذا الكتاب الذي يحتوي على الخريطة من أكثر الكتب مبيعاً، وأعيد طبعه 13 مرة وتُرجم إلى لغاتٍ متعددة، ما أثَّر على انتشار الكنائس ذات القباب البصلية في جميع أنحاء أوروبا في القرن الـ16، إنها حكاية خيالٍ خاطئ ونتائج غير مقصودة تستحق السخرية وفقاً لدارك.

من القاهرة ودمشق إلى أوروبا.. مدينة إيطالية كاملة تشبه مدينة إسلامية

لم يكن نقل الزخارف الإسلامية إلى الغرب بهذه البساطة دائماً، فقد اتخذ القوس المدبب طريقاً أكثر التفافاً ليصل إلى أوروبا.

تَتَبَّعت دارك كيف انتشرت الأقواس المدببة لأول مرة في القاهرة، وأصبحت أكثر حِدَّة وتوجيهاً في عهد الإمبراطورية العباسية، وأُعجب بها تُجَّارُ ميناء أمالفي الإيطالي الثري، الذين زاروا القاهرة، ثم نقلوا الاكتشافات المعمارية من رحلاتهم إلى كنائسهم في القرن العاشر.

ولفت هذا المبنى الغريب أنظار رئيس الدير ديسيديريوس، الذي زار أمالفي عام 1065 في رحلة تسوُّق لسلعٍ فاخرة نادرة، وقرر أن يأخذ تصميم النافذة المدبَّبة لديره في مونتي كاسينو في إيطاليا.

ثم نُسخت تلك النوافذ بعد ذلك للدير البينديكتيني في كلوني في فرنسا، وقد كان أكبر كنيسة في العالم في ذلك الوقت.

أحبَّ رئيس الدير سوجر -وهو مستشار الملكين لويس السادس والسابع- طريقة سماح النوافذ بدخول المزيد من الضوء، وطبَّق على الفور نفس التصميم على كاتدرائية سانت دينيس في باريس.

ونظراً لكونها أقدم مبنى ينتمي للعمارة القوطية بالكامل، فقد جرى الانتهاء من تلك الكنيسة في عام 1144، وذهب مهندسها للعمل في كاتدرائية نوتردام الشهيرة.

تقول دارك: لقد قاموا جميعاً بتقليد تصميم الكنيسة من العمارة الإسلامية، كانت هذه الكنائس الأقوى في أوروبا، لذا انتشر الأسلوب تماماً، كما تفعل جميع الموضات، عندما يتبنى الأشخاص الأقوياء شيئاً ما الجميع يريده.

والقائمة تطول، فقد وُجدت المآذن المربَّعة في وقتٍ مُبكِّر، في مبانٍ مثل الجامع الكبير بدمشق، وهي رفيعةٌ ومتوَّجة بقبةٍ بَصَلِيَّة الشكل، وجرى اقتباس هذه التصميمات الإسلامية في الأبراج الإيطالية العظيمة مثل تلك الموجودة في قاعة مدينة فلورنسا، وكاتدرائية سانت ماركس كامبانيل في البندقية، ما أدى إلى قرونٍ من تشييد أبراج أجراس الكنائس.

وبالاعتماد على أبحاث المؤرِّخة المعمارية الإنجليزية ديبورا هوارد، تُظهر دارك أنّ مدينة البندقية الإيطالية مدينة عربية أكثر من كونها مدينة أوروبية.

فممراتها المتعرِّجة الضيقة، والمنازل ذات الفناءات والشرفات على الأسطح، إلى الزخرفة الإسلامية لقصر دوجي (على غرار المسجد الأقصى في القدس) والقباب البصلية في كاتدرائية سانت مارك، كلها ثمار الرحلات التي قام بها تجار البندقية إلى مصر وسوريا وفلسطين وبلاد فارس، ما عزّز مستوى التأثير الذي امتدّ حتى إلى الموضة.

فقد كانت النساء في البندقية محجباتٍ في الأماكن العامة، ويرتدين الملابس السوداء من الرأس إلى أخمص القدمين. وعلَّق مصدر من القرن الخامس عشر قائلاً: لا يمكن للمرء أن يرى وجوهههن تماماً، إنهن يتجولن ورؤسهن مغطاة بالكامل، لدرجة أنني لا أعرف كيف يمكنهن السير في الشارع.

يأتي كتاب دارك في وقتٍ مشحون؛ إذ تقوم الجماعات القومية اليمينية بالتمسُّك بفكرة غربيَّة العمارة الأوروبية، لتعزيز رؤيتها المثالية لهويةٍ أوروبيةٍ "نقية" لم تتأثَّر بالعالم الإسلامي.

ويوجد الآن عددٌ لا يُحصى من حسابات مواقع التواصل الاجتماعي التي تروّج لرسائل تَفَوُّق البيض، متخفِّيةً في صورة "تقدير التراث"، لكنّ كتاب دارك يخرج بنتيجةٍ علميةٍ مختلفة: وهي أنّ معالم العمارة الأوروبية الأثرية المثالية في نظر اليمين المتطرِّف لها جذورها في الثقافة ذاتها التي يشككون فيها (أي: في العمارة الإسلامية).

تستشهد دارك في كتابها بكلمات المهندس المعماري الإنجليزي كريستوفر رين، الذي كان مدركاً تماماً للأصول الإسلاميّة للعمارة القوطية، والتقنيات الهيكلية التي كان يستخدمها لكاتدرائية القديس بولس.

وقد كتب في القرن الثامن عشر أنّ العمارة القوطية الحديثة تتميز بخِفَّة عملها، والجرأة المفرطة في ارتفاعاتها، ورِقَّة ووفرة والمبالغة الخيالية في زخارفها، مثل هذه المنتجات جيدة التهوية لا يمكنها قبول أنها تنتمي إلى أصول العمارة القوطية. بدلاً من ذلك خَلصَ إلى أنه بالنسبة لجميع معالم العمارة الجديدة يمكن أن تُنسب فقط إلى الموريسكيين (المسلمين المهجّرين من الأندلس)، أو العرب، أي باختصار العمارة الإسلامية.

والمفارقة تكمن في اسم كتاب دارك نفسه "Stealing from the Saracens"، فتاريخياً كان Saracen مصطلحاً ازدرائياً للمسلمين العرب، الذين حاربوا الصليبيين في الحروب الصليبية. وقد نشأ هذا المصطلح من الكلمة العربية "سرقة"، حيث كان يُنظر إلى المسلحين على أنهم لصوصٌ ونُهَّاب، ناهيك عن حقيقة أن الصليبيين نهبوا كل ما في طريقهم عبر أوروبا والقدس والقسطنطينية، لكنهم سرقوا أيضاً عجائب العمارة الإسلامية أينما ذهبوا، وزيَّفوا أصول غنائمهم الثقافية تلك بعد ذلك في عماراتهم الغربية.







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي