
إيفان باركس*
تُعدُّ نوبات الألم الحاد المفاجئ إلى جانب التقلصات والتشنجات العضلية بمثابة أحداثٍ يومية لمن يعانون من آلامٍ مزمنة، ومع زيادة الألم بشكل عشوائي، يُصبح التخطيط لأيام الأسبوع عملية شبه مستحيلة، ألن يكون تحسين القدرة على التحكم في كيفية ووقت ظهور الألم أمراً رائعاً؟ حسناً، يقدم لنا علم الأعصاب طريقة تمكننا من ذلك.
عادةً ما نفكر في الألم بوصفه بيانات تأتي من نهايات الأعصاب وتنتقل إلى الدماغ، على سبيل المثال، إذا وخزت نفسك بدبوس، فأنت تتخيل إشارة ألم تنتقل إلى مخك وتخبرك بأن إصبعك يؤلمك. مع وجود 69 كيلومتراً تقريباً من الأعصاب الطرفية التي تعمل في جميع أنحاء الجسم، يحلل دماغنا “البيانات” التي ترسلها تلك الأعصاب باستمرار.
تعرف العلوم المعرفية اتجاه عملية إدراك الألم بأنها تتم “من أسفل إلى أعلى”، بمعنى أن البيانات تنتقل من الجسم إلى المخ، وتنبه المخ إلى ما يحدث. ومع ذلك، عفى الزمن على مفهوم إدراك الألم هذا، وسرعان ما يحل محله نموذج بايز. وتشير هذه النظرية الجديدة إلى أن الألم ينتج عن تنبؤ المخ بأن شيئاً ما يفترض أن يؤلم، وذلك استناداً إلى خبرات الماضي، والمؤشرات السياقية، والمدخلات الحسية.
كيف يتنبأ المخ بالألم؟
أدت نظرية الاحتمالات المعروفة بقواعد بايز إلى رؤية جديدة جذرية للكيفية التي يولّد بها الدماغ الشعور بالألم، وكيف تجلب معها قدرة عظيمة لمساعدة أولئك الذين يعانون من الألم المزمن لينعموا بالراحة.
وفيما يلي نوضح طريقة سير الأمر: يضع العقل فرضيةً حول ما يتوقع أن يكون عليه العالم الخارجي. وتساعد تلك الفرضية في تحديد الكيفية التي يفسر بها المخ ما يحدث في حينها. وإذا كان هناك تضارب بين ما يتوقعه العقل والمعلومات التي يتلقاها بالفعل، فسوف يغير فرضيته.
لفهم هذا النموذج على نحو أفضل، فلنأخذ هذا المثال، تلك المرات التي فزعت فيها بسبب بعض الزغب الذي ظننت في البداية أنه عنكبوت، توضح تلك المرات كيف كان لدى عقلك فرضية بالفعل. حسناً، لن تكون ردة فعل الجميع تجاه بعض الزغب بالقفز، ولكن إذا كان عقلك أكثر انتباهاً لرصد وجود خطر عنكبوت فسوف يرى عنكبوتاً، خاصة إذا كان ما يراه الشخص يشبه تلك الحشرة. المعنى الضمني هنا واضح: يتألف عالمنا إلى حد كبير مما نفترض أن يكون عليه، وليس مما هو عليه حقاً.
كيف يرى العقل الجسم؟
لا يصنع العقل فقط تنبؤات حول مواجهة محتملة للعناكب في بيئتنا الخارجية، بل يضع كذلك افتراضات بشأن ما يحدث داخل الجسم أيضاً، ولعلكم تذكرون ما ذكرناه آنفاً، لدينا مجموعة من البيانات الحسية التي تندفع إلى المخ من كل جزء من الجسم طوال الوقت.
عندما تشاهد التلفزيون لمدة ساعة يتلقى العقل بيانات عن جسمك. تشمل تلك البيانات ما يلي: ضعف تدفق الدم إلى النصف السفلي من جسدك، الإجهاد في عينيك، التيبّس الذي يمنعك من الحركة بسهولة دون ألم، وشدّ العضلات، وآلام في الجسم، وعدم انتظام التنفس ومعدل ضربات القلب، وبيانات عن وضعية رقبتك، والوضعية الخاطئة للجلوس، ومستويات السكر في الدم، والاختلافات في درجة حرارة بشرتك.
السؤال الحقيقي هو ماذا تعني كل تلك البيانات بالنسبة لإدراكك؟
عندما تكون الفرضية الحالية في عقلك أنك بصحة جيدة، فلا يوجد أساس يبرر القلق، ولن تُفسَّر تلك البيانات الحسية الغامضة المثيرة للشك إلى حد ما على أنها تهديد. بعبارة أخرى، سوف يتركز وعيك على التلفزيون، وليس على ما يشعر به جسدك أثناء مشاهدته.
هذا التوقع الإيجابي هو السبب نفسه الذي يجعل الدواء الوهمي يخفف الألم غالباً. سوف يعتقد الشخص الذي يتناول حبة سكر (دواءً وهمياً) أنها سوف تساعد في تخفيف الألم، وبناء على ذلك سوف يشعر بأنها تنجح في ذلك. وكما تبيّن لنا، فإن هذا الشعور صحيح جزئياً! والواقع أن العقل، بسبب تعامله مع التدفق الطبيعي للمدخلات الحسية بوصفه علامة على التعافي، يساعد في الواقع في الشفاء الحقيقي، في بعض الحالات.
تخفيف الآلام المزمنة
قد تكون الآلام المزمنة ونوبات الألم أكثر شبهاً بتأثيرات النوسيبو (توهم المرض). يحدث تأثير النوسيبو عندما يتناول الشخص حبة سكر مع توقع حدوث آثار جانبية سلبية. إذا توقع أحد الأشخاص الشعور بالألم، أو الانزعاج، أو التشنجات، أو الشعور بالإرهاق، أو الدوار، أو التشويش وعدم التركيز عند تناول قرص السكر، فهذا على الأرجح هو ما سيعاني منه ذلك الشخص. حينها توضع الإشارات الغامضة للجهاز العصبي الطرفي في إطار وجود خطر ما نتيجةً للفرضية التي وضعها العقل بأن هناك خطباً ما، إذ إن توقع العقل وجود مشكلة من شأنه أن يضع الجسم بكامله في إطار الإجراءات التحضيرية استعداداً لهذا الخطر، وبالتالي سوف يسبب الألم سعياً لحمايتنا.
وإذا كانت نظرية بايز حول إدراك الألم صحيحة، فهذا يعني أن تخفيف الألم لا يأتي فقط من تحسين الصحة البدنية للشخص، بل أيضاً من مساعدة العقل في النظر إلى ما يحدث من منظور مختلف، أي أن تغيير الإطار الذي يعمل العقل من خلاله يعد أمراً مهماً.
أنا أعمل مع المرضى للعثور على الرسالة الصحيحة التي تصنع أكثر المعاني اختلافاً. على سبيل المثال، هناك رسالة أبدأ بها دوماً: “الألم لا يساوي الضرر”. لتوضيحٍ أكثر، يعني ذلك أن مجرد الشعور بالألم عندما يبدأ شخص ما برنامج من التمارين الخفيفة -وصفها أخصائي العلاج الطبيعي على سبيل المثال- لا يعني أن ضرراً قد وقع بالفعل. الألم لا يعني حدوث الضرر، بل والأهم من ذلك أن العقل يريد حمايتنا من خلاله. وهناك رسالة إيجابية أخرى تقول: “أنا بخير، وأنا أتحسّن”. يساعد التحدث إلى عقلك في هذا الإطار في تذكيرك بأنك شخص بصحة جيدة يتمتع بجسم قوي مفعم بالشجاعة والأمل.
انتبه إلى توقعاتك، لأن جسدنا يعدّنا باستمرار لما يفترض حدوثه في المستقبل. ومن خلال التحدث مع نفسك برسائل عن السلامة والصحة والتمتع بالحياة الحقيقية، فسوف تبدأ في خلق إطار إيجابي للنمو والتعافي.
*أخصائي نفسي سريري وأستاذ مساعد في كلية ولاية ميشيغان للطب البشري.
-هذا الموضوع مترجم عن مجلة Psychology Today الأمريكية.