معبد السماء ليس يونانيا.. مؤرخة بريطانية تروي القصة غير المحكية لآيا صوفيا والحوار الإسلامي المسيحي

2020-08-05

أثار قرار محكمة تركية إلغاء قرار مجلس الوزراء الصادر عام 1934، الذي قضى بتحويل "آيا صوفيا" في مدينة إسطنبول من مسجد إلى متحف، نقاشات هائلة لم تتوقف حتى الآن في أوروبا والعالم، وامتزجت فيها السياسة بالتاريخ والعمارة وحوار الأديان.

وفي مقالها الذي نشره موقع "ميدل إيست آي" (Middle East Eye) البريطاني، قالت المؤرخة البريطانية ديانا دارك إن تحوَّل متحف آيا صوفيا إلى مسجد أثار جدلا كان ينقصه السياق التاريخي لهذا المبنى البالغ الأهمية، منتقدة الصورة النمطية الغربية عن آيا صوفيا.

واعتبرت الكاتبة أن الشيء المهم الذي ينبغي فهمه هو أن آيا صوفيا مثل العديد من المباني الدينية، يحمل خلفية سياسية خاصة به -كما هي الحال دائما- تعكس الهندسة السياسة، وتوضح ما يحدث في المجتمع. والأحداث الحالية هي نتيجة سلسلة طويلة من التقلبات والمنعطفات.

 

الأعراق المتداخلة

وبحسب الباحثة في التراث السوري مؤلفة كتاب "بيتي في دمشق"، فقد شُيّدت الكنيسة الأولى سنة 360 للميلاد، ولكن لا يوجد دليل على وجود فسيفساء مسيحية على الجدران من النوع الذي عُثر عليه من القرن الخامس والسادس وما بعده، وبدلا من ذلك تمت تغطية الجدران بزخارف رخامية وجصية مطلية بالذهب بأنماط زخرفية.

وعندما انهارت الإمبراطورية الرومانية الغربية وروما نفسها عام 476 للميلاد، أصبحت القسطنطينية أكبر وأغنى مدينة في أوروبا، وكانت التأثيرات عليها واسعة ومتنوعة، بما في ذلك تأثرها بالثقافة اللاتينية الرومانية وبالأقباط في مصر، والتراقيين والمقدونيين والإليريين (في ألبانيا الحالية)، والبيثينيين (في شمال تركيا الحالية)، والكاريسيين والفريجيين (في وسط غرب الأناضول)، والأرمن والليديين (غرب الأناضول)، والغلاطيين (شعب آسيوي احتل أوروبا الوسطى)، والبهلغونيين والليكيين والسوريين والكيليسيين والمسيسيين والكابادوسيين والفرس، وبعد ذلك العرب المسلمين.

وتؤكد الكاتبة أن العديد من الأوروبيين يطلقون على الإمبراطورية البيزنطية اسم "اليونان"، بينما كانت واقعيا إمبراطورية متعددة الأعراق، شكل اليونانيون جزءا صغيرا نسبيا منها، ولم يكن معظم الأباطرة البيزنطيين من أصل يوناني، بحسب الأكاديمية البريطانية.

واضطر الإمبراطور جستنيان (توفي 565 للميلاد) إلى بناء آيا صوفيا الحالي، بعد أن تضرر بشكل لا يمكن إصلاحه من قبل الحشود الغاضبة التي احتجت على الضرائب المرتفعة التي فرضها. ووفقا لمؤرخ الفن جون لودن، فقد كان جستنيان "شخصا ذا رؤية وطاقة استثنائية، وكان متدينا بشكل كبير، ولكنه عديم الرحمة في الوقت ذاته، وتقابل طموحاته العسكرية مشروع المباني الضخمة الذي نفذه".

 

 

إعادة بناء آيا صوفيا

وبعد الاحتجاجات الغاضبة وفي مسعى لاستعادة السيطرة في أسرع وقت ممكن، كلف جستنيان في عام 532 اثنين من المهندسين المعماريين المشهورين، ينحدران من غرب الأناضول -وهي منطقة جغرافية تقع في الجزء الجنوبي الغربي من آسيا وتضم معظم تركيا حاليا- بإكمال بناء آيا صوفيا بقوة عمل ضخمة على مدى خمسة أعوام مكثفة.

وتقول المؤرخة البريطانية إن المعماريين تجاهلا العديد من تعليمات الإمبراطور ومقترحاته المعمارية، وصنعا في المقابل معمارهما الفريد من نوعه الذي تم تقديره عالميا كدرة العمارة البيزنطية، وأعجب به الجميع حول العالم لتحقيقه ذلك الإنجاز المذهل المتمثل بنظام القبة المركزية.

وهناك صورة مختلفة تماما تنقلها المخطوطة اللاتينية لأوروبا الغربية الموجودة الآن في مكتبة الفاتيكان، حيث يظهر الإمبراطور جستنيان كبير الحجم، أكبر بكثير من آيا صوفيا نفسه، وهو يوجه بنّاء صغيرا يبدو متوترا إلى حد ما وهو يحاول الحفاظ على توازنه على سلم.

ولم يُستلهم آيا صوفيا من مبنى "معبد البانثيون" لإمبراطور روما هادريان أبدا، ولكن من التقاليد الشرقية الأقدم. فقد كانت كنيسة مار سمعان في سوريا غرب حلب -والتي اكتملت عام 490 للميلاد- أكبر وأهم مؤسسة دينية في العالم لمدة 50 عاما، قبل بناء آيا صوفيا.

ومثلت مار سمعان أيضا مصدر إلهام لموقع التراث العالمي لليونسكو، وكنيسة القديس فيتالي في مدينة رافينا الإيطالية التي مثلت لفترة وجيزة عاصمة الإمبراطورية الرومانية الغربية، حيث كان جميع الأساقفة حتى عام 425 للميلاد من أصل سوري، وكان قديسهم أبوليناريس من مدينة أنطاكية (جنوب تركيا الحالية).

وكان يمكن لكنيسة مار سمعان -التي تشتهر في جميع أنحاء أوروبا كموقع للحج، وتشبه سانتياغو دي كومبوستيلا في زمانها- أن تستوعب 10 آلاف مصلّ، أي أكثر مما تسعه كاتدرائية نوتردام دو باري أو دير كلوني.

معبد السماء

كانت آيا صوفيا أكبر كاتدرائية في العالم لأكثر من ألف عام، وكان لها تأثير كبير وإلهام على العمارة الدينية المستقبلية، سواء المسيحية أو الإسلامية.

عام 558 للميلاد، تسببت سلسلة من الزلازل في انهيارها بعد 20 عاما فقط من اكتمالها، وفي ذلك الوقت كان الإمبراطور جستنيان يبلغ من العمر 76 عاما، وكان المعماريان قد توفيا.

انهارت أجزاء من هذه القبة الثانية التي انتهى تشييدها عام 562، مرة أخرى عاميْ 989 و1346 للميلاد، لكنها رُممت دون إجراء تغيير على المواد المكونة لها، وعد هذا إنجازا لافتا أشاد به المؤرخون العثمانيون في وقت لاحق.

عام 1204 للميلاد وخلال الحملة الصليبية الرابعة، شهدت آيا صوفيا أكبر ضرر لحق بها على مرّ تاريخها الطويل، حيث تعرضت للنهب، على غرار القسطنطينية بأكملها، وهو ما خلف انقساما كبيرا بين الكنائس اللاتينية واليونانية والروم الكاثوليك ضد المسيحيين الأرثوذكس اليونانيين، وتواصل القتل والاغتصاب والنهب والدمار طوال 3 أيام.

 

الحملة الصليبية الرابعة

أججت هزيمة بيزنطة -التي شهدت حينها تدهورا هائلا- انهيار الأوضاع السياسية في الإمبراطورية، مما جعل هزيمتهم على يد الأتراك سهلة. وعلى عكس المتوقع، أسفرت الحملة الصليبية الرابعة والحركة الصليبية في نهاية المطاف، عن انتصار الإسلام.

وجّه البابا إينوسنت الثالث -الذي أطلق بشكل غير مقصود الحملة المشؤومة- توبيخا لمقاتلي الحملة الصليبية التي دمرت القسطنطينية، وقال: "كيف ستعيد كنيسة الإغريق وحدة الكنائس والإخلاص في نشر الرسالة، بغض النظر عن شتى ألوان المحن والاضطهاد التي عانتها، وهي ترى اللاتينيين مثالا قائما على الهلاك وأعمال الظلام، حتى أنها الآن -ولأسباب وجيهة- تكن كرها للاتينيين أكثر من كرهها للكلاب؟".

وتابع البابا "أما أولئك الذين كان من المفترض أن يخدموا غايات الدين المسيحي، لا مصالحهم الخاصة، فقد استلوا سيوفهم التي كان من المفترض أن يرفعوها في وجه الوثنيين، ولطخوها بالدم المسيحي، فلم يرحموا دينا ولا عمرا ولا جنسا. لقد ارتكبوا سفاح الأقارب والزنا والفحشاء أمام عيون الملأ، وانتهكوا الأماكن المقدسة ودمروا الصلبان والآثار".

لكن الغضب الذي أظهره البابا لم يثنه عن قبول الجواهر المنهوبة والذهب والمال وغيرها من الأشياء الثمينة، التي دلت على ثراء الكنيسة الباذخ، واستغل جزءا كبيرا من هذه الثروة بدوره في مشاريع بناء ضخمة في جميع أنحاء أوروبا، مثل زخرفة وتزيين كاتدرائية القديس مارك في البندقية، وبعض هذه الأموال أيضا وُجّه لتمويل الكاتدرائيات القوطية في أوروبا، بحسب المؤرخة البريطانية.

وأعرب البابا يوحنا بولس الثاني عن ندمه -بعد مرور 800 عاما- على أحداث الحملة الصليبية الرابعة، وقال في رسالته التي توجّه بها إلى رئيس أساقفة أثينا عام 2001: "من المؤسف أن المعتدين الذين انطلقوا لتأمين حرية وصول المسيحيين إلى الأرض المقدسة، انقلبوا ضد إخوانهم في الدين. يأسف الكاثوليك لحقيقة أنهم مسيحيون لاتينيون".

رمزية مشتركة

عام 1453 للميلاد، عندما فتح السلطان محمد الفاتح القسطنطينية، أطلق العنان لجيوشه لأخذ الغنائم طوال 3 أيام، وهي العادة التي دأب عليها أي جيش منتصر في تلك الفترة (لا العثمانيين فقط)، ولكن بعد ذلك دعاهم للتوقف.

سمح محمد الفاتح لمعظم الكنائس بمواصلة نشاطها، ولكنه جعل آيا صوفيا مسجدا. أقام مئذنة وقام السلاطين اللاحقون بتشييد 3 أخرى، وهو ما يفسر وجود مئذنة حاليا في كل ركن من أركان آيا صوفيا، لكن لم تطرأ تغييرات كبيرة في الداخل الذي ما زال إلى حد كبير كما كان قبل الفتح، بحسب المؤرخة البريطانية.

ويضفي كل من المسيحية والإسلام الكثير من الرمزيات المشتركة على دلالة القبة في العمارة، مثل اعتبارها تمثيلا ماديا للسماء والآخرة، لكن لطالما اختلفت آيا صوفيا عن المباني المقدسة في روما، مثل البانثيون وكاتدرائية القديس بطرس.

اعتبر تصميمها متجذرا في التقاليد الشرقية، حيث تميزت الأضرحة الفارسية بقبة دائرية ترتكز على أسطوانة مربعة، ونتج عن الانتقال بين الدائرة والمربع شكل عرف باسم المثمن، وهو يمثل -في المسيحية والإسلام- القيامة والرحلة بين الأرض والسماء، وهو ما يفسر الشكل المثمن الذي تتخذه العديد من المقابر في كلا الديانتين.

 وبالإضافة إلى المفاهيم المشتركة، تمتع المسيحيون والمسلمون في شرق البحر المتوسط بتراث مشترك، ظهر في مواد البناء والتقنيات المستعملة والأدوات التي تنقلت بين العوالم اليونانية الرومانية والفارسية وحتى الإتروسكانية القديمة (حضارة إيطالية قديمة

كذلك، فهم يتشاركون في العمال والبنائين والحرفيين الذين عملوا حسب الطلب نزولا عند رغبة صاحب العمل الذي يكون سخيا في دفع أجورهم، بغض النظر عن دينه. وتكرر استخدام أنماط الفسيفساء البيزنطية -على سبيل المثال- لزخرفة المساجد الإسلامية، على غرار قبة الصخرة والمسجد الأموي في دمشق، وكاتدرائية سيدة الانتقال في حلب.

في سنة 1573، كُلف المهندس المعماري العثماني العظيم سنان، بترميم آيا صوفيا التي بدأت تظهر عليها بوادر الانهيار مرة أخرى. فتمت إضافة دعامات إلى الخارج لضمان مقاومتها للزلازل. عموما، أضيفت 24 دعامة على مرّ القرون الماضية لضمان تماسكها، مما جعل مظهرها الخارجي مختلفا تماما عما كان يبدو عليه في الأصل.

وتشير الكاتبة في نهاية المقال إلى الخسارة التي يمكن أن تعاني منها الخزينة التركية بتحويل آيا صوفيا إلى مسجد مفتوح للجميع بلا تذاكر، على غرار المسجد الأزرق المجاور وجميع المساجد في تركيا، (على عكس العديد من الكاتدرائيات والكنائس في أوروبا)، إذ كان الدخول إلى "متحف آيا صوفيا" يتطلب دفع قرابة 15 دولارا للشخص الواحد.

وتختم الكاتبة بالقول إننا ربما يجب أن نحتفل بحقيقة أن المسلمين وغير المسلمين على حد سواء يمكنهم اليوم القيام بزيارات متكررة "مجانية" إلى آيا صوفيا، لملاحظة الهندسة المعمارية التي تمتزج فيها المسيحية بالإسلام في هذا المبنى الفريد القائم على التلاقح بين الشرق والغرب.







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي