عن الأفلام بعد الحَجر… بين الصالة والصالون

2020-05-22

سليم البيك *


صالات السينما كانت من أوئل المتأذين، وستكون آخر المتعافين. ولا إشارة إلى ما سيستغرقه هذا التعافي ليعود إلى حالة ما قبل الحَجر، الذي نعيشه اليوم. في فرنسا مثلاً، يخرج الناس إلى المرحلة الأولى من حالة ما بعد الحجر في 11 أيار/مايو، مع تأخير صالات السينما والمسارح والحدائق وفضاءات عامة أخرى، إلى مرحلة ثانية قد تكون في أوائل حزيران/يونيو، علماً بأن صالات السينما كانت قد أُقفلت قبل البدء الرسمي بحالة الحجر في البلد في 18 آذار/مارس. فرنسا مثال يمكن إسقاطه على العديد من دول العالم، مع فارق أن حال السينما وامتلاء صالاتها في هذه البلد أفضل من غيره، وأن استطلاعا أجري خلال الحَجر يقول فيه الفرنسيون إن ثاني أكثر ما يفتقدونه هو الذهاب إلى السينما (بعد المطاعم والمقاهي).
لا أرجح الثرثرات الأبوكالبتية، التي تقول إن العالم لن يعود إلى ما كان عليه، بما في ذلك قطاع الفنون وعموم الثقافة. ستفتح صالات السينما، وإن كانت ستستغرق في ذلك وقتاً أطول من غيرها، للطبيعة الازدحامية الصديقة لكوفيد – 19 في هذا النشاط (مشاهدة الأفلام على كراسٍ متلاصقة في صالة مغلقة لأكثر من ساعة).
ثقافياً وفنياً، كل شيء سيعود «إلى ما كان عليه» (لحسن الحظ في مواقع، وسوئه في أخرى)، كما غاب وعاد مرات، والسينما ليست استثناء، لكن القلق على السينما لا يأتي من هنا، بل من تغييرات قد تطال هذه العودة.
قرأنا أخباراً بأن نتفليكس هي أكثر الرابحين من حالة الحجر هذه، والناس في بيوتها، بأشغال شبه مقطوعة، تحتاج تسليات ليست من بينها – بنسب محددة – القراءة، فاستحوذت المُشاهَدة على أوقاتهم، واستحوذت نتفليكس على هذه المشاهدة.


الحديث القديم سيتجدد بشكل أكثر حدة، وهو أن المزيد من صالات السينما ستُغلَق لسبب رئيسي، هو تحالف الشاشات الصغيرة والسحابية الذكية (التلفزيون، اللابتوب، التليفون) مع شبكات الستريمينغ كنتفليكس وأمازون وموبي، وكذلك مع خدمات VOD لاستئجار الأفلام، وهو حديث وخطَرٌ يعلوان مع حالة الحَجر المنزلي هذه.
كيف سنفهم هذه الحالة الجديدة، ما بعد الحَجر، وقد استحوذت نتفليكس وزميلاتها على عادة المشاهدة لدى محبي السينما (السينيفيليين) خلال الحجر. وهو استحواذ لا يقتصر على نتفليكس أولاً، وهو حجرٌ ليس اختيارياً ثانياً، فيكون أحدنا محاصَراً محصوراً. في المنزل، أمام كم هائل من الأفلام والمسلسلات المتاحة بشكل نظامي أو مقرصَن، من قبل شبكات ومواقع، وكذلك من خلال إتاحة أفراد ومؤسسات لأفلامهم «أونلاينياً» لفترة محدودة.
لست هنا ألوم هذه أو تلك، ولست متفائلاً ولا متشائماً من حالة صالات السينما ما بعد الحجر، وكل ما يهمني هو عادة المشاهدة للفيلم، أو ظروف تلقي الفيلم الجدير بصالة مغلقة له، ووقت مكرس يبدأ مع الفيلم وينتهي به، ولا يتخلله إعداد الشاي ومكالمة واتساب وتقليم الأظافر.
وجود شبكات كنتفليكس ساهم في تخفيف وطأة الحجر على محبي السينما، مشاهدي الأفلام – اضطراراً- في منازلهم. إتاحة أفلام أونلاينياً، وكانت مبادرة حميدة من أصحاب هذه الأفلام، ساهمت كذلك وبنسبة أعلى، في تخفيف وطأة البقاء في المنزل أولاً، وعدم القدرة على الخروج إلى السينما ثانياً. وهذا كله أمر حســـن. لكن اعتبارات لاحقة للحالة التي نعيشها، يمكن أن تزيد من مخاوف تجاه عادة المشاهدة التي تصير أكثر منزلية مع الوقـــت، وبالتالي لاسينمائية، أكثر، مع الوقت، وهذا منحى لا يتعلق بالمتلقي وحسب، بل بأصحاب الأفلام أنفسهم، وموزعيها.


قرأت أن الفيلم الجديد للمخرج سبايك لي سيتم بثه في حزيران/يونيو على نتفليكس، ضمن انجراف واسع لصناع أفلام نحو شبكات الستريمينغ هذه، ما يعني عروضاً سينمائية أقل لها، ما يعني ترسيخاً لعادة مشاهدة منزلية على حساب السينمائية. أمر آخر، إضافة إلى التوزيع الحصري لأفلام جديدة تكون فنية وممتازة (وإن نادرة)، قامت هذه الشبكة، مستهدفة السينيفيليين قبل غيرهم، بعقد اتفاق مع شركة الإنتاج والتوزيع الفرنسية MK2 لعرض مجموعة أفلام لكل من فرانسوا تروفو وتشارلي تشابلن وديفيد لينش وكريستوف كيشلوفسكي وآخرين، إضافة إلى أفلام متفرقة، وهذا كله لا يأتي ضمن التسلية التي يسعى إليها المشاهد النموذجي لنتفليكس، بل ضمن المتعة التي يتلقاها السينيفيلي في مشاهدة وإعادة المشاهدة لأفلام كلاسيكية وفنية ومستقلة، وليست تجارية ولا رائجة ولا تافهة.
هذه ساحة جديدة تطأها نتفليكس لجمهور آخر متعود على صالات السينما، وألزمه الحجرُ على هجرها، كما ألزمها على إغلاق أبوابها، فأتاحت الشبكةُ متنفساً له في منزله، بأفلام سيحب، حتماً، تكرار مشاهدتها، ليزول الحجر بعد شهر أو اثنين، وتفتح الصالات أبوابها، وقد ألف المشاهدة المنزلية بعدما خلت لها الساحة، مع احتمال استثقال النهوض والذهاب إلى الصالات. لا ألوم في ذلك نتفليكس التي حسناً فعلت تجاه مشاهدين هم أقلية، وهم لا يشاهدون معظم محتوى الشبكة من أفلام ومسلسلات تُكرر إحداها تفاهةَ الأخرى. وحسناً فعل أصحاب الأفلام العرب في إتاحتها أونلاينياً ليشاهدها أحدنا من منزله ضمن ظروف الحَجر.
لستُ هنا للتفضيل، ولا للتحذير بأن عادة مشاهدة الأفلام ستتغير. أنا أحكي عن تفصيل النوعية وليس الكمية، فقد تكسب الأفلام عموماً مشاهدين مستجدين، لكن بعادة مشاهدة منزلية، وقد تجر هذه الأفلام هؤلاء إلى صالات سينما في مناسبات ما، هذه كلها احتمالات لا تقود إلى الأسوأ ولا إلى الأحسن، فيما يخص الثقافة السينمائية، قد تكون في صالح كمية المشاهدة ولكن ليس في نوعيتها.
كل ما نستطيع فعله الآن هو الانتظار، إلى أن يعود العالم إلى وضع ما قبل الفيروس، ننتظر ونشاهد من المنزل أفلاماً أتأمل أن تكون مدخلاً إلى عوالم سينما لن يرغب داخلها بالخروج منها، قد تحمل المشاهدة المنزلية أحدنا إلى الصالات غداً، وتجعله أحد زوارها، وقد تخطفه منها لتبقيه في صالونه على كنبته. يبقى الأساس أن نعطي العمل الفني ظروف التلقي الملائمة له، تكون صالة وليس شاشة سحابية ذكية للمشاهَدة، تكون كتاباً وليس الشاشة ذاتها للقراءة، تكون معرضاً ومسرحاً وليست الشاشة اللعينة ذاتها لكل الفنون.

 

٭ كاتب فلسطيني ـ سوريا 







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي