في التاريخ اليوناني القديم.. الأوبئة بين "غضب الآلهة" وسوء القادة

2020-03-23

في القرن الخامس قبل الميلاد، كتب الروائي والكاتب المسرحي التراجيدي سوفوكليس مسرحيته "أوديب ملكا" التي يكافح بطلها لتحديد سبب الطاعون الذي ضرب مدينته طيبة وأهلك الحرث والنسل وامتلأت الأرض بالجثث وسادت الفوضى، ليكتشف أن السبب هو القيادة السيئة للمدينة.

وتذكّر الملاحم اليونانية والمسرحيات والأساطير والأشعار القديمة الجماهير بحاجتها لقادة يكونون قادرين على التخطيط للمستقبل، معتبرين من دروس الماضي وعدم تكرار أخطائه، وفي ملحمة الإلياذة الشعرية التي تحكي قصة حرب طروادة وتعتبر واحدة من أهم الملاحم الشعرية الإغريقية للشاعرهوميروس، يُنتقد الملك الأسطوري أغاممنون لأنه لا يعرف "ما قبل وما بعد".

واعتبرت الأوبئة موضوعا لاختبار ذكاء القادة في الأساطير اليونانية القديمة، وفي مقابل أغاممنون، جرت الإشادة بشخصية كالشاس الأسطورية كواحد من هؤلاء الذين يعرفون سبب الطاعون وما حدث وما سيحدث.

وفي مقاله بموقع كونفيرزيشن، يرى الأكاديمي جويل كريستنسن -أستاذ مشارك في الدراسات الكلاسيكية القديمة بجامعة برانديز الأميركية- أن الملاحم والتراجيديا القديمة ساعدت رواة القصص وجمهور العالم القديم في محاولة فهم المعاناة الإنسانية وآلامها.

مسؤولية البشر

كانت الأوبئة شائعة في العالم القديم، وفي بعض الأحيان كان يوجه اللوم للقادة السيئين، بدلا من تفسيرها "بغضب الآلهة" مثل الكوارث الطبيعية الأخرى.

وكتب الشاعر الإغريقي الشهير هسيودوس على لسان زيوس -الشخصية الأسطورية في الأساطير الدينية الإغريقية- قوله إنه سيرهق القادة السيئين عبر الهزائم العسكرية والأوبئة، ويصف شعر الإلياذة الحكام السيئين الذين يدمرون شعبهم بتهورهم بأنهم "رعاة سيئون يدمرون قطعانهم".

لكن المؤرخين القدماء مثل بوليبيوس في القرن الثاني قبل الميلاد وليفي في القرن الأول قبل الميلاد كانوا يحاولون أيضا البحث عن تفسيرات "عقلانية" للوباء مثل تغير المناخ والتلوث، وروى المؤرخ ثوسيديديس كيف ضرب الطاعون -ذو الأصول الإثيوبية المزعومة- أثينا عام 430 قبل الميلاد، وشرح أعراض المرض مثل الحمى وضيق التنفس والهذيان.

وكانت أثينا دولة غير مستعدة لمواجهة تحدي هذا الطاعون، ويصف ثوسيديديس عدم جدوى أي استجابة بشرية بالقول إن مناشدات الآلهة وعمل الأطباء -الذين ماتوا بأعداد كبيرة- كانتا وسيلتين عديمتي الفائدة على حد سواء، وتسبب المرض في الدمار، لأن الأثينيون تكدسوا داخل أسوار المدينة تجنبا لمواجهة مفتوحة مع جيوش إسبرطة خلال حرب البيلوبونيز المأساوية بين المدينتين التي استمرت أكثر من سبعين عاما.

وأحالت الإستراتيجية العسكرية التي انتهجها بريكليس (أحد أشهر القادة اليونانيين القدماء) أثينا إلى مرتع للمرض، عندما اقتنع مجلس الحكم فيها بالتخلي عن المناطق الريفية المحيطة لصالح كتائب المشاة الإسبرطيين، ونقل سكان هذه المناطق إلى داخل أسوار المدينة المكتظة بسكانها، وأرسل البحرية الأثينية لغزو السواحل البيلوبونيزية أملا في حمل القيادة الإسبرطية على وضع حد للحرب.

ولم يكن منطق بريكليس الإستراتيجي والعسكري تشوبه شائبة، لكن الاختباء خلف الأسوار العالية أفضى إلى عواقب وخيمة، وقتل الطاعون ما يقدر بمئة ألف شخص، ويعتقد أنه دخل مدينة أثينا عبر ميناء بيريوس الذي يعد المصدر الوحيد للغذاء والإمدادات لأثينا القديمة، التي كانت مدينة تعج بالسكان.

وتوفي العديد من مشاة أثينا والبحارة الخبراء، وكذلك جنرالهم بريكليس، وبعده حكمت أثينا مجموعة من القادة وصفهم ثوسيديديس بأنهم غير أكفاء وضعفاء.

شعور الخوف

ورغم طبيعة الطاعون الرهيبة، يصر ثوسيديديس -الذي أصيب بالمرض ونجا منه- على أن أسوأ جزء هو اليأس الذي يشعر به الناس، مؤرخا لما اعتبره "رعب البشر الذين يموتون مثل الأغنام"، وموت المرضى بسبب الإهمال، ونقص المأوى المناسب، وانتشار الأمراض بسبب المدافن غير الصحية في مدينة غير مهيأة ومزدحمة، وسادت فيها أعمال النهب وغياب القانون.

تسبب تكدس الناس خلف أسوار أثينا في تفشي الطاعون بينهم (ويكي كومنز)

وهكذا، تسببت أثينا، التي بنيت كحصن ضد أعدائها، بدمارها الذاتي، ومع ذلك لم يوقف الطاعون حرب طروادة، ولم يمنع أبناء أوديب من شن حرب أهلية فيما بينهم، ولم يعطِ تفشي الطاعون أهل آثينا أسبابا كافية لصنع السلام، بحسب هوميروس ومؤرخي اليونان القديمة مثل سوفوكليس وثوسيديديس.

لسنوات بعد ويلات الطاعون، عانت أثينا من القتال والسياسات الخاطئة والقادة الأنانيين، وأدت السياسة الشعبوية إلى الحملة الصقلية الكارثية عام 415 قبل الميلاد، مما أسفر عن مقتل الآلاف من الأثينيين، ومع ذلك بقيت المدينة قائمة، بحسب مقال كريستنسن الدارس للشعر اليوناني القديم.

وبعد عقد من الزمان، انقسم الأثينيون مرة أخرى إلى طوائف، وحاكموا جنرالاتهم في نهاية المطاف بعد انتصار بحري في عام 406 قبل الميلاد في معركة أرجينوساي البحرية ضد إسبرطة، وفي 404 قبل الميلاد بعد الحصار هزمت إسبرطة أثينا مرة أخرى، وكان قادة أثينا هم الذين تسببوا بهزيمة أنفسهم من جديد، بحسب مؤرخي العالم القديم.

 طاعون أثينا

وفي مقاله بالموقع ذاته، يرى كريس ماكي أستاذ الكلاسيكيات بجامعة لا تروب الأسترالية، أن جائحة كورونا المعاصرة تستند إلى هشاشة الوجود البشري في مواجهة مرض عضال، وينقل وصف ثيوسيديدس للطاعون الذي ضرب أثينا عام 430 قبل الميلاد في مقاطع عظيمة من الأدب اليوناني.

ويقول المؤرخ اليوناني القديم عن طاعون أثينا ان أفظع شيء كان اليأس الذي سقط فيه الناس عندما أدركوا أنهم قد أصيبوا بالطاعون، لأنهم "على الفور تبنوا خيار اليأس المطلق، ومن خلال الاستسلام بهذه الطريقة، فقدوا قدرتهم على المقاومة".

ويركز ثيوسيديديس على الانهيار في القيم التقليدية، حيث استبدل الشرف بالانغماس في اللذات، و"لم يعد هناك خوف من الإله أو الإنسان"، وأما بالنسبة للجرائم ضد القانون "فلم يتوقع أحد أن يعيش طويلا بما يكفي لتقديمه للمحاكمة ومعاقبته، وبدلا من ذلك شعر الجميع أن عقوبة أشد بكثير قد صدرت بحقه فعلا".

ومع ذلك، يعتبر ثيوسيديديس أن الكلمات تعجز حقا عن إعطاء صورة عامة عن هذا المرض، أما معاناة الأفراد فقد بدوا كأنهم يفوقون قدرة الطبيعة البشرية على الصمود.







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي