هل أمام الفلسطينيين اليوم سوى نكبة أخرى؟

2020-01-13

ثمة سذاجة وقحة في رد إسرائيل على بيان المدعية العامة في محكمة الجنايات الدولية في لاهاي، فاتو بنسودا، بأن هناك أساساً لفتح تحقيق ضدها بتهمة ارتكاب جرائم حرب في المناطق. بإعادة صياغة أقوال المحامي دوف فايسغلاس في حينه، بأن الفلسطينيين طالما لم يتحولوا إلى فنلنديين فإن عقد اتفاق سلام معهم غير وارد في الحسبان، ويمكن القول إن إسرائيل الرسمية -كما يتبين مثلاً من بيان المستشار القانوني للحكومة افيحاي مندلبليت، في الرد على بيان المدعية العامة– تعتبر نفسها فنلندا أو أي دولة أخرى لا تسيطر على شعب آخر: “إسرائيل دولة قانون ديمقراطية”، قال مندلبليت، “وهي ملزمة وتعمل على احترام القانون الدولي والقيم الإنسانية. هذا الالتزام استمر ويستمر بثبات خلال عقود عبر كل التحديات والأزمات التي مرت بها إسرائيل. وهو متجذر في طابعها وقيمها… ويتم ضمانه عن طريق جهاز قضائي قوي ومستقل يسبقه اسمه في كل أرجاء العالم” (“هآرتس”، 21/12).

المثير للدهشة ليس تجاهل الاحتلال، بل العكس، سيكون من المبسط قليلاً الادعاء بأن أمامنا إنكاراً للاحتلال، ليس أكثر من ذلك. حتى لو كان واضحاً أن إسرائيليين كثيرين، ولا نقول الأغلبية، يعتقدون بأن “المناطق” غير “محتلة”، بل “محررة” – حيث يدرك مندلبليت نفسه ومن وجهت لهم أقواله، حقيقة أن إسرائيل تتحكم بمصير ملايين الأشخاص الذين لا تساوي مكانتهم السياسية مكانة الحكام الإسرائيليين. ما يثير الدهشة حقاً، وحتى يثير الرعب الكبير من إعلان مندلبليت، هو الموجود في طيات النص، الذي يقول إن تحكم إسرائيل بالفلسطينيين في المناطق والاستيطان الإسرائيلي المدني على أراضيهم، يعتبران عملاً قانونياً وشرعياً كلياً، ويتفقان مع “احترام القانون الدولي والقيم الإنسانية”.

من المعروف أن إسرائيليين كثيرين، حتى لا نقول الأغلبية، على قناعة بأنه لا يوجد أي تناقض بين سلب حقوق المواطنة والقومية من الفلسطينيين وبين القيم الإنسانية واحترام سلطة القانون. وهذا جزء من تبريرات عدة (“نقوم بحمايتهم من داعش”، “نقدم لهم فرص عمل”، “لقد خرجنا من غزة”، وغيرها). ولكن يمكن الافتراض أن ممثلي إسرائيل الرسميين لم يكونوا ليتجرأوا على التفاخر بالالتزام بسلطة القانون والعدل بهذه الوقاحة لولا أن سحق الكرامة القومية والإنسانية للشعب الفلسطيني -في نظر اللاعبين الرئيسيين في المجتمع الدولي- اعتبر ظاهرة قانونية وشرعية وتتفق بشكل جيد مع المعايير القيمية والإنسانية.

أجل يجب الاعتراف بأن مسألة الحقوق القومية للفلسطينيين –في نظر العالم المسيحي الحالي بشكل عام والعالم الغربي بشكل خاص، تثير قدراً غير قليل من الانزعاج الذي يتراوح بين هز الكتفين وحركة يد رافضة. ينظر نبلاء العالم وأثرياؤه –المسيحيون في معظمهم– الشعب الفلسطيني على أنه هراء تاريخي.. شعب زائد، وعائق أمام اليوتوبيا الدينية اليهودية –المسيحية التي تمس قلوب مزيد من المسيحيين في عالمنا ما بعد العلماني، وليس فقط قلوب افنغلستيي ترامب. لذلك، ليس من المدهش بأن سلب حريات هذا الشعب الزائد –الشعب المصمم الذي يرفض التنازل عن وطنه والاعتراف بالحقوق الحصرية لأهل الكتاب المقدس في أرض الكتاب المقدس– لا يعدّ خرقاً لـ “القانون الدولي والقيم الإنسانية”. بالعكس؛ فعبر هذه الرواية الدينية – السياسية يعدّ نضال هذا الشعب من أجل حريته عملاً غير أخلاقي، وهكذا بالضبط يُعرض مرة تلو الأخرى مؤخراً في إطار المعادلة المثيرة للرعب، “معارضة الاحتلال والاستيطان تساوي اللاسامية”.

عندما يعتبر قمع وإهانة شعب ما ظاهرة طبيعية ومعيارية من ناحية دينية، في حين يوصف الاحتجاج ضدهم بأنه مس بالنظام العالمي السليم، فإن هذا الشعب يكون واقعاً تحت خطر وجودي. وفي الحقيقة يصعب التصديق بأن الترانسفير الجزئي للشعب الفلسطيني الذي سُوّغ جيداً بمزيج من المبررات الأمنية والأخلاقية “مناهضة للاسامية”، كان سيثير معارضة كبيرة من قبل المجتمع الدولي. لذلك، في الوقت الذي يناقش فيه البروفيسور يهودا باور إذا كان معنى حق العودة هو إبادة جماعية في جوهره (“هآرتس”، 4/7) فمن المحتمل الآن أننا على بعد شعرة من التطهير العرقي للفلسطينيين.

هل تشعر قيادة السلطة الفلسطينية، التي تتخيل أنها تقف على رأس دولة كاملة، بالخطر الذي يحدق بشعبها إزاء تشويش معايير الأخلاق السياسية الدولية في كل ما يتعلق بالقضية الفلسطينية؟ هل تشعر بأن نشطاء الـ بي.دي.اس، الفلسطينيين وغير الفلسطينيين، بدعوتهم الغبية وغير الأخلاقية من الجامعات الغربية المريحة ضد حق إسرائيل في الوجود، يقومون بشحن دواليب الدعاية الإسرائيلية التي تبث الخوف من الفلسطينيين؟ وماذا بخصوص جميع أعضاء اليسار في إسرائيل الذين يدعون، سواء بتحمس أو بيأس، من أجل إقامة الدولة الواحدة بين النهر والبحر؟ ألا يعرفون أن هذه الدولة قد تظهر مثل شرك لتهجير الشعب الفلسطيني، وفي نهاية المطاف.. هل من الحتمي أن يكون القوميون الإسرائيليون المهووسون بالأغلبية اليهودية مستعدين لاستيعاب المواطنين العرب الجدد في بلادهم؟ أليس واضحاً أن الطريقة الوحيدة لمنع نكبة أخرى هي تقسيم البلاد وإقامة دولة فلسطينية قابلة للعيش إلى جانب إسرائيل؟

 

بقلم: دمتري شومسكي

هآرتس 13/1/2020







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي