هل الإسلام مقاوم للعلمنة؟

2020-01-05

ترجمة: محمد الدخاخني

على مدى عقود، ناقش علماء الاجتماع الذين يدرسون الإسلام ما إذا كان ثاني أكبر دين في العالم سيخضع للتحول الرئيس الذي مرّت به الديانة الأكبر، المسيحيّة: العلمنة. وهل سيصبح الإسلام صوتاً بين أصوات مختلفة، وليس الصوت المهيمن، في المجتمعات الإسلاميّة؟

قدّم العديد من الغربيّين إجابة سلبيّة، معتقدين أنّ الإسلام جامد بشكل لا يسمح بالعلمنة. وقدم العديد من المسلمين إجابة سلبيّة أيضاً: لن يسلك ديننا طريق الغرب الملحد الخاطئة.

ويبدو أنّ صعود الإسلامويّة، وهي عبارة عن تفسير مسيّس إلى حدّ كبير للإسلام، في سبعينيّات القرن الماضي، لم يؤكّد سوى الرّأي نفسه: "الإسلام مقاوم للعلمنة"، كما لاحظ شادي حميد، وهو مفكّر بارز في شؤون الدّين والسّياسة، في كتابه "الاستثناء الإسلاميّ" (2016).

ومع ذلك، لا شيء في تاريخ البشريّة مقرّر بشكل نهائيّ. وهناك الآن علامات على ظهور موجة علمانيّة جديدة في العالم الإسلاميّ.

بعض هذه العلامات التقطها "البارومتر العربيّ"، وهو عبارة عن شبكة بحثيّة مقرّها برينستون وجامعة ميشغان؛ حيث أشارت استطلاعات الرّأي إلى حالة ابتعاد عن الإسلامويّة... وتوصّلت استطلاعات الرّأي الّتي أجرتها الشّبكة مؤخّراً إلى أنّه في الأعوام الخمسة الماضية، في ستّ دول عربيّة محوريّة، تراجعت "الثّقة في الأحزاب الإسلامويّة" و"الثّقة في الزّعماء الدّينيّين"...

  يمتلك الإسلام، في جوهره، العديد من الفضائل لإلهام البشريّة لكنّ بعضها خفت بسبب السّلطة وإملاءات التعصب

وصحيحٌ أنّ الاتّجاه المشار إليه ليس ضخماً. فالعرب الّذين يصفون أنفسهم بأنّهم "غير متدينين" هم 8 في المائة ممّن شملهم الاستطلاع في عام 2013، وارتفعوا إلى 13 في المائة فقط في عام 2018.

ولذلك، ينصح بعض الخبراء في المنطقة، مثل هشام هيلير، وهو باحث مصريّ-بريطانيّ، بالحذر.

ومع ذلك، يعتقد آخرون، مثل المعلّق الشّهير في شؤون الشّرق الأوسط كارل شارو، وهو لبنانيّ المولد، أنّ هناك شيئاً ما يحدث بالفعل.

"هذا صحيح إلى حدّ ما، ويمكنك أن تشعر به في أماكن كثيرة.."، يقول عن الموجة العلمانيّة. "إنّها بداية شيء سيستغرق وقتاً طويلاً".

ما السّبب؟ "السّبب الأساسيّ هو السّياسة الإسلامويّة وبعض التّمظهرات الاجتماعيّة والسّياسيّة للصّحوة الإسلاميّة"، يجادل السّيّد شارو.

ويشمل هذا، كما يقول، "خيبة أمل الإخوان المسلمين في مصر، وصدمة داعش، والتّعب من الأحزاب الطّائفيّة في العراق ولبنان، والغضب من النّظام الإسلامويّ في السّودان".

عندما تبتعد عن العالم العربيّ وتنظر إلى القوّتين المهمّتين بالجوار - إيران وتركيا - يمكنك أن ترى الاتّجاه نفسه، ولكن على نطاق أوسع.

في إيران، تحكم الجمهوريّة الإسلاميّة منذ 40 عاماً، لكنّها فشلت في حماسها إعادة أسلمة المجتمع. "بدلاً من ذلك، حدث العكس"، كما لاحظ الباحث في شؤون الشّرق الأوسط نادر هاشمي.

 "يطمح معظم الإيرانيّين اليوم إلى العيش في جمهوريّة ديمقراطيّة وليبراليّة وعلمانيّة، وليس دولة دينيّة يديرها رجال الدّين".

في الواقع، لقد اكتفى الكثيرون منهم من رجال الدّين، ويتحدّونهم بشجاعة في الشّوارع.

في تركيا، بلدي، حدثت تجربة أكثر ليونة، ولكن ممائلة، في العقدين الماضيين. فتحت قيادة الرّئيس رجب طيّب أردوغان، أصبح الإسلامويّون المهمّشون في تركيا سابقاً النّخبة الحاكمة الجديدة.

 وهذا أتاح لهم جعل إيمانهم أكثر وضوحاً وحزماً - لكنّه أيضاً ورقة تين تستر شهوتهم الّتي لا تشبع من أجل السّلطة. وهكذا، وكما لاحظ عالم الاجتماع المولود في تركيا مجاهد بيليتشي، "فإنّ الإسلامويّة في تركيا اليوم مرتبطة في أذهان النّاس بالفساد والظّلم". والكثير من الأتراك يكرهونها أكثر من أيّ وقت مضى.

غالباً ما تكون حالة التّحرّر من الوهم هذه تجاه الإسلامويّة بما هي أداة سياسيّة، ولكنّها يمكن أن تنقلب على الدّين نفسه.

وفي تركيا، يتجلّى هذا الأخير في اتّجاه اجتماعيّ بين الشّباب أصبح حديث اليوم: صعود "مذهب التّأليه الطّبيعيّ"، أو الإيمان بالله.. ويشعر الإسلامويّون المؤيّدون لأردوغان بالقلق من هذا "التّهديد الكبير للدين"، لكنّهم ينظرون إليه، بشكل تراجيديّ-كوميديّ، على أنّه مؤامرة غربيّة أخرى، وليس ما أفضت إليه سياساتهم.

إلى أيّ مدى يمكن أن تذهب هذه الموجة العلمانيّة؟ الله وحده يعلم، إذا كان لنا أن نقدّم إجابة دينيّة. ومع ذلك، تجدر الإشارة إلى أنّ هذه الموجة تختلف عن نوع العلمانيّة الّتي فرضت على العالم الإسلاميّ قبل حوالي قرن من الزّمان، على يد سلطويّين متغرّبين مثل أتاتورك في تركيا أو رضا شاه في إيران. لقد كانت ثورتهما من أعلى إلى أسفل، ثورة فرضتها الدّولة وكان ينظر إليها على نطاق واسع على أنّها غير أصيلة. ومع ذلك، فإنّنا نتحّدث هذه المرّة عن اتّجاه من أسفل إلى أعلى، قادم من المجتمع، من أناس سئموا كلّ الأشياء البشعة الّتي تحصل باسم الدّين.

وهذا هو السّبب في أنّ ذلك يذكّرني ببدايات التّنوير، عندما طوّر الأوروبيّون، بعد أن شاهدوا أهوال الحروب والاضطّهاد الدّينيّ، فكرة العلمانيّة السّياسيّة، بينما دافعوا أيضاً عن العقل وحرّيّة الفكر والمساواة والتّسامح.

بالطّبع، يمكن أن تتوافق هذه المثل العليا مع الإسلام، كما جادل "الحداثيون الإسلاميّون" منذ أواخر القرن التّاسع عشر. علاوة على ذلك، تشير تونس، وهي نقطة مضيئة نادرة في العالم العربيّ، إلى وجود أمل في هذا المسار المعتدل.

لكن إذا أبقى الإسلامويّون والمحافظون على طرقهم القديمة، فقد يواجهون نسخة راديكاليّة من التّنوير: نسخة معادية بشّدة لرجال الدّين ومعادية بشكل جازم للأديان، تذكّر بما حوّل فرنسا ضدّ الكنيسة الكاثوليكيّة الّتي كانت مهيمنة.

لذلك، إذا كان الإسلامويّون والمحافظون يهتمّون حقّاً بمستقبل الإسلام بدلاً من تكديس السّلطة باسمه، فيجب عليهم البدء في التّفكير في إنّهاء كلّ الأشياء الّتي ربطوها به من الحروب الأهليّة، الحكم الاستبداديّ، التّعليم المليء بالكراهية.

يمتلك الإسلام، في جوهره، العديد من الفضائل لإلهام البشريّة - مثل التّعاطف والتّواضع والصّدق والإحسان. لكنّ جزء من تلك الفضائل خفت لدى البعض من أجل السّلطة وإملاءات التّعصّب.

  • باحث ومترجم مصري






كاريكاتير

إستطلاعات الرأي