رحلة غوته الإيطاليَّة... ملاحظات في الأدب والفنّ والعمران

2019-10-26

قراءة : عماد الدين موسى

 

بلغةٍ سلسة أقرب إلى رواية أو قصيدة ملحميّة طويلة؛ مكتوبة بإمعان وتروّ وملاحظةٍ دقيقة لكل العناصر الحياتيَّة في مكانٍ يشمل الفن والتاريخ والعمارة، يأتي كتاب "رحلة إيطالية" لغوته كوثيقةٍ أدبية/ فنيَّة/عمرانيَّة، حيثُ يضمّ الكتاب رحلتين منفصلتين إلى إيطاليا، ملاحظات مكتوبة بقلم غوته، الشاعر والفيلسوف الألماني المخضرم الذي عاش في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر ودوّن في الكتاب هذا ملاحظاته حول كلاسيكيات الأعمال الفنيَّة والمعماريَّة في إيطاليا التي كانت تعتبر آنذاك مستودعاً للمعرفةِ ومجمعاً للآثار العلميَّة إبان عصر النهضة الأوروبيَّة.

كتاب يُغني عن السفر

"يُظهر الكتاب عالماً ثريَّاً دوّن غوته فيه ملاحظاته حول الفنّ والمعمار وحتّى الطقس، ووصفه ذاك لم يفلت من ملاحظاته الدقيقة"

يأتي كتاب غوته "رحلة إيطاليَّة 1786-1788" الصادر مؤخراً عن منشورات المتوسط ودار السويدي، والحائز على جائزة ابن بطوطة للترجمة، بترجمة فالح عبد الجبار؛ ككتاب يوميّات غوته (1749-1832) على شكل رسائل إلى القارئ، رسائل تعريفيَّة شيّقة يمكن اعتبارها من أبرع ما كتب في أدب الرحلات، ونافذة يطلّ منها القارئ على عالم كان في وقتٍ مضى يشمل كلاسيكيَّات الأدب والفنّ والفلسفة والعمارة.
دوّن غوته يوميات الكتاب: "استناداً إلى رحلتين إلى إيطاليا، الأولى قام بها في أيلول/سبتمبر 1786 واستمرّت حتّى شباط/فبراير من العام 1787، فقضى خمسة شهور في فيرونا، البندقيَّة، روما، والرحلة الثانية بدأها في حزيران/يونيو من العام 1787 واستمرّت حتى نيسان/أبريل من العام 1788، قضاها هذه المرّة كلها في روما عازماً على التمتّع بمعالمها وآثارها ومتاحفها".
يُظهر الكتاب عالماً ثريَّاً دوّن غوته فيه ملاحظاته حول الفنّ والمعمار وحتّى الطقس، ووصفه ذاك لم يفلت من ملاحظاته الدقيقة، وكأنّ الكتاب يريد أن يكون معلَمَاً كاملاً يضمّ كلّ ما يتعلّق بالرحلة مُزيداً كلّ ذلك بملاحظاته ومقارناته بما قرأه في وقتٍ سابق عن الرحلة، والترجمة نجحت في نقل ما ودّ غوته أن يوصله وينقله عبر الكلمات من خلال دقة التصوير للعالم الجديد الذي ولجه.

المقارنات التي ينجزها الكاتب تعتبر بحقّ وثائق يمكن الرجوع إليها في أيّ زمن لتحديد الأمكنة والمعابد وطراز العمران وشكل الفنّ والأدب آنذاك، ليعطي الوصف المتّبع داخل الكتاب واعتماد المؤلف على مقاطع مؤرَّخة بالزمان والمكان ككتلة معرفيَّة كاملة للقارئ حول إيطاليا وطرقها ومعابدها وشكل فنّها في وقتٍ من الأوقات التاريخيَّة. ومن ثمّ الحديث عن الجغرافيَّة والأنهار بتفاصيلها الرقيقة التي تتأتّى كنصٍ شعريّ واصِف خلال السرد: "يجري نهر آديج الآن مجرى هادئاً، وتنبجس منه في مواضع شتّى جزر عريضة من الحصى، وتزدحم ضفّتا النهر والتلال بالمزروعات الكثيفة، التي تدفع المرء للتخيّل بأنّ كل محصول يخنق الآخر، الذرة، التوت، التفّاح، الكمّثرى، السفرجل والجوز". القلاعُ القديمة والأديرة والمعابد كلّها، ستكون مواضيعَ وعناصر عيانيَّة تشدّ غوته ليكتب بطريقةٍ مُتسلسلة تلك المعلومات وينقلها دن أن تضطرّ لمغادرة مكانك، فالمكانُ بهبة الكتابة يأتي إلى القارئ بكامل البهاء كشريط صورٍ فوتوغرافيَّة.


يبدو أنّ طرح سمات الأهالي في كلّ منطقة زارها غوته يعطي الانطباع الأكيد عن أنّ هكذا تدوينات تبقى للأبد كرسائل يمكن الاحتفاظ بها للدلالة على سمات شعبٍ بعينه، أخلاقه، حبّه أو كرهه للفنون والقداسة، ومتحدّثاً بلغة العارف يمضي غوته في سرد السمات، والملاحظ في جلّ الكتاب هو دفقة المعلومات، حيثُ وهو يكتب عن معلومة تثِبُ أخرى إلى ذهنه: "يذكّرني ذلك بما نسيتُ أن أحكيه لكم عن سمةٍ أخرى من سمات أهالي نابولي، وهي شغفهم بمشهد ميلاد المسيح، أو ما يسمّى (البريسيبه)، حيث يرى المرء أيّام عيد الميلاد، هذا المشهد مجسّداً في كنائسهم كلّها، وتتألّف هذه المشاهد من دمى ضخمة، تمثّل تبجيل الرعاة والملائكة وحكماء المجوس للسيد المسيح"، وثمة غيرها من الأمثلة الشبيهة تكشف عن ولع غوته بالسرد المباشر للمعلومة ووضعها في إطارٍ شيّق يُعطي الكتاب بُعداً تاريخياً وفنيَّاً وكاشفاً لمجاهيل تلك البلاد، كحديثه عن اختلاف أنواع العمل بين طبقات المجتمع في نابولي وكيفيَّة استخدام مفردة العمل وتطبيقاتها المتعدّدة: "لنعد إلى العوامّ ثانيةً، إنّهم أشبه بالأطفال، فحين يسند المرء إليهم عملاً يؤدّونه، فإنهم يعاملونه بوصفه عملاً، ولكنهم يرون فيه، في الآن ذاته، فرصةً للهو". أيضاً الكشفُ عن كتبٍ وأسماء لمؤلّفين برعوا في الكتابة عن الخير للبشريَة: "تعرفت خلال الأيام القليلة الماضية على رجل عظيم، يدعى كافالييري فيلانجيري، المشهور بمؤلفه (علم التشريع). إنه واحد من أولئك الشباب ذوي القلوب النبيلة التي لا يغيب عن فكرها أن الهدف هو سعادة بني البشر وحريتهم".


التعمّق في الفنّ والأدب

 

"يأتي كتاب "رحلة إيطالية" لغوته كوثيقةٍ أدبية/ فنيَّة/عمرانيَّة"

لا يمكن بسهولة الإحاطة بالفنّ والثقافة الإيطاليين، ولكن غوته وعلى مدار سنتين من الترحال والتجوال في تلك البلاد، دوّن وبكلّ المعرفة ودقّة الذكاء لديه ما كان يبصره آن تجواله ومحادثاته مع الناس حوله، العلاقات التي يكوّنها، ليأتي الكتاب كوثيقة حول الثقافة والفنّ الإيطالييَن لكن ليس بطريقة سرد الكتب التاريخيَّة، من خلال التدوينات الدقيقة فحسب، فمتحدّثاً عن الأدب نراه يقارن فيما بين الأعمال الأدبيَّة الموضوعة آنذاك مضيفاً إليها ملاحظاته ومقارناته بشكلٍ نقديّ سلس، اللقاءات والحوارات مع أصحاب المؤلّفات والحديثُ عن الفلسفةِ وتطوّراتها ولكن بشكلٍ غير منهجيّ مدرسيّ، إنّما على شكل ملاحظاتٍ مقطّعة ترِد خلال السرد بشكلٍ يمكن للقارئ أن يجمعها في غير سياقها المنفصل لتكوّن معرفةٍ بالأدب والفنّ في أوقات رحلة غوته، كذلك الحديث عن الفنون التشكيليَّة حينذاك، ما يمنح الزخمَ المعرفيّ الأقوى للكتاب، من خلال وصف اللوحات التشكيليَّة المعروضة في المعابد والأماكن العامّة. وكأنّ شرط معرفة مكانٍ ما يتوجّب أن يقضي فيه الإنسان وقتاً، غير أنّ غوته وبملاحظاته السيريَة تلك يمنح القارئ معرفةً دون أن يتحرّك من مكانه.


ما يثير الانتباه في الكتاب من ناحية سرد الفنّ والأدب الإيطاليَّيَن في مراحل معيَّنة هو الاهتمام القديم لغوته بإيطاليا كمكانٍ توجد لديه كلّ مقوّمات الاكتفاء الذاتيّ في الأدب والفنّ، اللوحات المعلٌّقة في المعابد القديمة، وفي المنازل، الحديث مع الجوار حول كلّ الذي يبصره غوته في محاولةٍ لاستزادة المعرفة، ليفصح في ردٍّ على رسالةٍ داخل الكتاب مدى شغفه بالمعرفة وحبّه لزيادة المعلومات لديه وظهور علامات نجاح الرحلة الباهرة: "إنّنا نسمع ونقرأ عن الكثير من الرجال العظماء والبارزين، لكننّا نجد هنا فوق الرأس وأمام العين، الدليل الحيّ على ما يمكن لرجلٍ واحد أن يجترح من مآثر، إنني أبادلكم الحديث في دخيلتي على الدوام، وأتمنّى لو أستطيع أن أدوّن كل تفاصيله على قطعة الورق هذه، لو سعيتُ إلى أن أصف لكم كيف وُلدتُ من جديد، وكم أشعر أنني تجدّدتُ، وأنجزتُ صبواتي، وكيف ترسّخت قدراتي كلّها، لملأتُ صفحات وصفحات".


بحثُ العمارة

"العمارة والهندسة كفلسفة بحدِّ ذاتها تُبان من خلال ما يسرده غوته"

لا يخلو الكتاب من توضيح العمارةِ الإيطاليَّة بأدقّ تفاصيلها مرويَّةً بلغة قريبة من ذهن القارئ، توضيح صورة ما كان عليه العمران من خلال الملاحظات، العمارة والهندسة كفلسفة بحدِّ ذاتها تُبان من خلال ما يسرده غوته، ومن خلال ما قرأه في كتب الأسلوب الأمثل لتصميم المدن، من مثل ما كتبه المهندسان المعماريّان فيتروفيوس وبالاديو قبل البدء بالرحلة، ففي حديثه عن معبد منيرفا وتصميمه العمرانيّ تتوضّح الصورة: "لا يكلّ المرء عن النظر إلى الواجهة والإعجاب بالتتابع المنطقي للعمارة. إنّ النسق كورينثي، والمسافات بين الأعمدة مُقاسة بوحدتين ثابتتين.

وإنّ قاعدة الأعمدة أو الوطيدة المربّعة التي تسندها تبدو كأنّها تقف على منصّة، غير أنّ هذا محض وهم، لأنّ أساسات أعمدة الهيكل قد ثُقبت في خمسة مواضع، وتوجد في كلّ فجوة خمس درجات، تفضي إلى ما بين الأعمدة، ويمكن للمرء أن يصل، عن طريقها، إلى المنصَّة التي تقف عليها الأعمدة فعلاً، ثم يدخل المعبد"، هذه الدقّة في التوصيف ومن ثمّ قوله عن البناء بأنّه عقلاني وعزمه– بعد الخروج – على أن يلفت انتباه المعماريين إلى ذلك البناء حتّى يعدّوا صوراً دقيقة عن خريطة عمارته، ماضياً في كشف هنّات بالاديو الذي أعدّ مخطّطَّاً للمعبد والذي اعتمد عليه غوته في رسم المكان.


رحلة غوته الإيطاليَّة كتاب مهمّ للقارئ، وتتوضّح هذه الأهميَّة لحظة الفراغ من القراءة، المكانُ إذ يتبدّى كصورةٍ مختلطة العمق وثريَّة، التاريخُ والتشكيل والأدب والعمران والفلسفة بتنسيقٍ كتابيّ يأخذ طابع الحكايةِ اللطيفة دون إيراد أرقامٍ أو إحصائيَّات مملّة بالنسبة للقارئ، وثمة الكثير مِّما يمكن حمله من الكتاب ومن ثمّ سرده لمن يودّ أن يزور ويتعمّق في الأمكنة.







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي