"الجندي والدولة والثورات العربية": من النظرية إلى آلية الوقاية من الانقلاب

الامة برس
2019-09-26

يعتبر حقل العلاقات المدنية-العسكرية حقلًا غربيًا بامتياز، ومكتبتنا العربية أفقر فيه من غيره من حقول التحول الديمقراطي، لذلك داومت على سؤال صديقي الكاتب والورّاق محمد عبد العزيز عن كتاب "الجندي والدولة والثورات العربية" فور صدوره عن "المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات"، حتى أثقلت عليه في السؤال.

جاء الكتاب محقّقًا لبعض الآمال، جامعًا بين الإلمام الواسع والقدرة التحليلية المميزة، رغم أنَّه يعمل في ظل تحديات معرفية أوضحها المؤلف الجزائري د. طيبي غماري متمثلة في شح البيانات والمعلومات عن المؤسسة العسكرية العربية، لأن مسائل الجيش في الوطن العربي تُحاط عادة بالسرية لدواع أمنية واستراتيجية، فيكتفي الباحث في هذا الحقل "بما تجود به المؤسسة العسكرية عليه من المعلومات".

يستند الباحث إلى مسلّمة مفادها أن تشكل العلاقات المدنية-العسكرية في دول الربيع العربي -بالصورة التي ظهرت فيها بعده- يرتبط أساسًا بتاريخية هذه العلاقات في المراحل التي سبقت التحول، أمّا الأطروحة التي يقوم عليها الكتاب فهي "أن مطلب النخب العربية بعزل الجيش عن السياسة هو مطلب طوباوي"، لأن حضور الجيش في حلبات السياسة اضطراري وإجباري، فلا يصحَّ التفكير في منع تدخل العسكر في السياسة، بل يجب السعيُّ إلى ضبطه وتنظيمه، وجعل مشاركة العسكر في الحياة المدنية مشاركة إيجابية، تخدم الديمقراطية وتحميها.

وقد أبدع د. طيبي غماري في مقدمة كتابه، فقدّم وصفًا دقيقًا للمؤسسة العسكرية، وحلَّ معضلة أرهقت الباحثين العرب قبله، وهي تحديد الفروق الجوهرية بين المجتمعين العسكري والمدني، فميّز بين المجتمع السياسي المدني المفتقد للسلاح والمعلومة والتضامن بين مكوناته والثقة بين الفاعلين الأساسين، وبين المجتمع العسكري المالك الحصري للسلاح والمعلومة والمتميّز بالتنظيم وقوّة الروابط العاطفية بين أفراده.

ثم أوضح استنادًا إلى هذا التمييز إشكالية العلاقة بين العسكري والمدني؛ فالمدني الذي لا يملك إلا "سلطة الشرعية" يعمل من أجل الهيمنة على العسكري صاحب "سلطة القوة"! وبالنظر لما سبق، فلا يصحّ التساؤل عن سبب تمرد العسكر على المدنيين، بل يجب التساؤل عن سبب خضوعهم لهم.

 

الإرث النظري

في فصله الثاني يستعرض الباحث النظريات الخمس الأهم في العلاقات المدنية-العسكرية وينتقدها، وربما كان هذا الفصل أهمّ فصول الكتاب لأنَّه يسدُّ ثغرة في المكتبة العربية التي تفتقر الكثير من أدبيات حقلنا هذا.

1- نظرية صموئيل هنتنغتون: سعى صاحب كتاب الجندي والدولة "Soldier and the State" إلى فكّ ما يسميه "إشكالية العسكر والمدنيين"، وكيف يمكن كسب رهان إبقاء العسكر -على الرغم من قوتهم- تحت سيطرة المدنيين، ليصبح الهدف الأول للسياسة الاحترافية للجيش عند مؤلف "صدام الحضارات" هو تطوير نسق علاقات عسكرية-مدنية قادرة على ضمان الحد الأقصى من الأمن العسكري بحد أدنى من التضحية ببقية القيم الاجتماعية.

لكن طيبي غماري يرى نظريةَ هنتنغتون مرهقةً بالاختلالات، وعلى رأسها صعوبة تحقق معادلة الاستقلالية والاحترافية والحياد على أرض الواقع مما يجعلها معادلة طوباوية.

2- نظرية صموئيل فاينر: يرسم فاينر الشبكة المعقدة بين العسكري والمدني المُؤسسة على خلفيات الجيش السوسيولوجية والأنثروبولوجية والتاريخية، ويحدد مفهوم الاحترافية، إذ لا تقوم نظرية في علم العلاقات المدنية-العسكرية دون تأسيس مفهوم احترافية الجيش، ولعلّي أقف عند هذا المفهوم في مادةٍ أخرى.

 

فإنَّ أهم ما قدّمه فاينر هو تصنيفه الرباعي لدرجات هذا التدخل في العلاقات المدنية-العسكرية:

أولًا: يستعمل الضباط سلطتهم الشرعية والدستورية للضغط على الحكومة، من أجل تحقيق أهدافهم الخاصة، مثل رفع ميزانية الجيش.

ثانيًا: يستعمل الضباط التهديد بالعقوبات والابتزاز لتحقيق الغايات نفسها.

ثالثًا: الحالات التي يتم فيها تغيير نظام حكم مدني بآخر لأن الأول لم يلبِّ طلبات العسكر بالشكل المرغوب فيه.

رابعًا: تنحية السلطات المدنية وتعويضها بحكم عسكري مباشر.

نلاحظ أن أشكال التدخّل التصاعدية هذه قائمة على ابتزاز العسكري للمدني في سبيل مصالحه، و"الابتزاز" مفهوم نكاد نفقده تمامًا في أدبيات حقلنا هذا، رغم أن العلاقات المدنية-العسكرية قائمة في جزء كبير منها على ابتزاز العسكر للمدنيين حتى في الدول الديمقراطية، ولكنه يبقى الجزء المسكوت عنه، والرواية المفقودة في التاريخ السياسي وعلم اجتماع الجيش.

3- نظرية جانُوِيتز: المنطلق الأساس لمقاربة جانُوِيتز السوسيولوجية هو ضرورة توظيف العوامل الاجتماعية والثقافية لنشر ثقافة أسبقية المدني على العسكري، معوّلًا على "الجندي المواطن" في مقابل "الجندي المحارب" حيث ينحّي أهمية الاحترافية العسكرية في حفاظ العسكري على مسافة أمان من التدخل السياسي، ويضع مقابلها "القيم الثقافية" كعنصر أساسي في تغيير العلاقات المدنية العسكرية، ويذكرنا هذا بقصة الذئب الذي تربّى مع الغنم، لكن جانُوِيتز لم يقرأها في طفولته على ما يبدو.

4- نظرية مهران كامرافا: ما يميز نظرية كامرافا هو اختصاصها بالعلاقات العسكرية-المدنية في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، حيث صنفها إلى:

- صنف الضباط السياسيين المستبدين.

- صنف الملكيات المؤسسة على القبلية.

- صنف الجيوش ذات التبعية المزدوجة.

 

وقد رأى طيبي غماري أن هذا التصنيف مهم وضروري لفهم آليات عمل الجيوش العربية، وكيفية تسييرها للعلاقات العسكرية-المدنية، لكنه في الوقت نفسه لا يسمح لنا بتفسير ردات فعل هذه الجيوش خلال الأزمات.

5- مقاربة زولتان باراني: تختلف مقاربة باراني عما سبقها في أنها اهتمت بالجيش في لحظة الثورة، وقدمت نموذجاً للخبراء للتنبؤ بردات فعل الجيوش على الثورات، وأعتقد أن مقاربة باراني ذائعة الصيت في العالم العربي لا تحتاج إلى التذكير بها هنا.

وينتقد غماري عمل باراني -الأستاذ في كلية الناتو الدفاعية- بأنَّه يعاني من تناقض رهيب بين مقدماته وروح الثورة نفسها، حيث يتهم باراني الخبراء والباحثين بالعجز عن التنبؤ بحدوث الثورة، وبالتالي العجز عن التنبؤ بردات فعل الجيوش عليها، فالثورة -من وجهة نظر باحثنا العربي المتميّز- وردات الفعل عليها هما فعلان مؤسَّسان على عامل المفاجأة والمباغتة، ومن ثم تبقى محاولات التنبؤ بمثل هذه الظواهر أقرب إلى العمل الاستخباري منه إلى العمل الأكاديمي العلمي.

إلّا أنَّ الكاتب قصَّر في الاطلاع على أعمال باراني، فاتهمه بعدم الانشغال بدراسة العلاقات المدينة-العسكرية دراسة شاملة، وأنَّه لم يهتم بالسلطات المدنية أو بالمجتمع، والحقيقة هي أن باراني أنتج "نظرية" متكاملة ومتماسكة في هذا الحقل، في كتاب مَثَّلَ تحديًا معرفيًا لكل قراءه هو "الجندي والدولة المتغيرة" لأنه مبني على تفحص معمق لسبعة وعشرين حالة حول العالم، وما كان ينبغي للباحث طيبي غماري أن يقع في هذا القصور، إن كانت ترجمة الكتاب صدرت عن "المركز العربي" عام 2018، فقد صدر الكتاب بالإنجليزية عام 2012 أي قبل كتاب "كيف تستجيب الجيوش للثورات؟ ولماذا؟" الذي استند عليه غماري في بحثه، خاصة وأنه ذكر في مراجعه أبحاثًا أخرى لباراني رجع إليها بالإنجليزية.

 

الانقلابات

تظهر الأرقام المثيرة للإحصائيات حول الانقلابات في العالم الثالث إلى "وقوع 432 محاولة انقلابية بين عامي 1945 و2000"، فأصبح الانقلاب في بعض البلدان هو القاعدة، بينما أمسى الاستقرار والتداول السلمي على السلطة استثناءً.

أما الشرق الأوسط فخصوبة أرضه جعلته مرتعًا للانقلابيين، فمنذ انقلاب حسني الزعيم -الأول عربيًا- في آذار/مارس 1949 وحتى نهاية عام 1980 وقعت 55 محاولة انقلابية في الدول العربية، نصفها كان ناجحًا، والأكثر إثارة للسخرية ما ذكره خلدون النقيب في كتابه "الدولة التسلطية في المشرق العربي" حيث قام عسكر سوريا بثلاث انقلابات في أسبوع واحد، اثنان منها بقيادة شخص واحد هو جاسم علوان! الذي يماثله في العراق بلا منازع عارف عبد الرازق.

وقد قتلت هذه الانقلابات ثقة السياسي المدني بالعسكري، لأنه يظهر له خطرًا محدقًا بوجوده وبسلطته. وفي المقابل فإنَّ العسكري لا يثق بالمدني، لأنه يظهر له تهديدًا كامنًا لمكاسبه وامتيازاته المادية والمعنوية.

ويضيف طيبي غماري: "اهتدى الحكام الذين وصلوا إلى السلطة بواسطة الانقلاب وقوة السلاح، إلى آلية تمنع تكرار ما حدث لهم، حيث تم العمل على تنفيذ مجموعة من التكتيكات والاستراتيجيات في تسيير العلاقات العسكرية-المدنية، بحيث يصبح من المستحيل التفكير في القيام بعمل انقلابي ضد الحاكم". وهذه التكتيكات والاستراتيجيات يسميها الباحث بـ"آلية الوقاية من الانقلاب" وتتحدد تفاصيل هذه الآلية بناءً على أربعة عوامل جوهرية وهي:

-1 موقف الحاكم من الجيش.

-2 علاقة الجيش بمسار بناء الدولة.

-3 تركيبة المجتمع الاجتماعية والإثنية والطائفية.

-4 الأوضاع الدولية المحيطة بالشرق الأوسط وشمال أفريقيا: وفي ظل الأهمية الجيوسياسية والاقتصادية -مواردَ وممرات- والأمنية للعالم العربي، فإنَّ فوبيا التدخل الأجنبي -عسكريًا أو استخباراتيًا- تصبح أحد أهم المحركات الأساسية والمبررات الجاهزة لآلية الوقاية من الانقلاب.

ويجزم الباحث أن آلية الوقاية من الانقلاب بقدر ما كانت مفيدة للأنظمة الحاكمة فقد كانت مضرة بالقوات المسلحة؛ حيث أضعفت قدرتها على الاستجابة السريعة، حتى في أداء مهماتها الأصلية، أي خوض الحروب دفاعًا عن الوطن، والانتصار فيها.

 

تطبيق الشبكة التحليلية

استنادًا إلى شبكة التحليل التي بناها الكاتب حول آليات منع الانقلاب، يناقش وضع الجيوش العربية من لحظة استقلالها حتى ثورات 2011 بناءً على إحصاءات عام 2010، من أجل قياس مدى صدق فرضياته، دارسًا خمسة جيوش حالة بحالة في الفصل الرابع الذي يمثّل أكثر من نصف الكتاب تقريبًا.

فبعد استعراض تاريخ بناء الجيوش في كل من ليبيا، مصر، سوريا، اليمن، وتونس، وتوضيح علاقة الحاكم بجيشه، يحاول غماري تفكيك آلية الوقاية من الانقلاب المعتمدة من النظام الحاكم في كل بلد، وانعكاساتها على دور الجيش ومكانته وقوته نسبة إلى باقي أجهزة الدولة، لينتقل بعدها إلى مستوى آخر من التحليل، حيث يقوم بقياس ردة فعل الجيش على الأزمة التي انشأتها الثورات في كل بلد ونتائج هذه الاستجابة.

وسأترك للقارئ الكريم متابعة نموذج طيبي غماري في تحليل استجابة الجيوش العربية للثورات، مقتصراً على نصٍّ مهمٍ حول التحديات التي تواجه تونس في الحفاظ على موقف الجيش من السياسة -رغم أنه لا يزال وفيًّا لمبادئه- خصوصًا وأننا نعيش أيام الانتخابات الرئاسية في تونس:

التحدي الأول: الصراع العلماني-الإسلامي على السلطة، ورغبة كل طرف في الاستقواء بالجيش، وهي رغبة يمكن أن تفتح شهية العسكريين على الخروج من بزاتهم العسكرية، والانخراط في الحراك السياسي الغامض.

أما التحدي الثاني: فيتمثل في انخراط الجيش التونسي بقوة في الحرب على الإرهاب والتهريب؛ هذه الحرب والتضحيات التي قدمها الجيش التونسي إلى الآن، يمكن أن تدفع بالعسكريين في تونس إلى الشعور بنوع من الأفضلية على باقي المواطنين، ومن ثم الدخول في نطاق معادلة "الأكثر تضحية = الأكثر شرعية"، وتضخم الأنا العسكرية، وظهور الرغبة في تذوق ممارسة السياسة والحكم، بدلًا من السياسيين، خصوصًا إذا تواصل عجز السياسيين عن حسم الأمور الأساسية بالنسبة إلى دولة ما بعد "الثورة".

ويتمثل التحدي الثالث: في التشريعات الجديدة التي أعطت الجيش صلاحية المتابعة القضائية في المحاكم العسكرية للمواطنين المدنيين. وقد بدأ فعلًا في متابعة بعض الصحافيين بتُهم نشر معلومات عسكرية عن عمليات مكافحة الإرهاب. فيمكن لهذه التشريعات والمتابعات أن تجعل العسكري يتذوق طعم سلطة القمع، ما يثير شهيته إلى التفكير في تقويتها جديًا.

ويتعلق التحدي الرابع: بمسار "أسطرة" الجيش التونسي بوصفه جيشًا محايدًا ومنحازًا إلى تطلعات شعبه؛ فمنذ سقوط الرئيس التونسي الأسبق، يجري، وبشكل ممنهج، تصوير الجيش التونسي كبطل للثورة. لذلك فإن بناء أسطورة "الجيش التونسي الاستثنائي" يمكن أن تكون في واقع الأمر المرحلة الأولى والأساسية في مسار إعادة الجيش إلى الحلبة السياسية.

وهي ملاحظات ثاقبة ومهمة ينبغي مراعاتها لضمان استمرار الاستثناء التونسي في التحول الديمقراطي بعد ثورات 2011.

 

محاكمة الثورات

رغم أنَّ عنوان الكتاب "الجندي والدولة والثورات العربية" فإنَّ طيبي غماري يعترض في كتابه على تسمية الثورات العربية بالثورات!

فبعد محاولة تحديد معايير "الثورة" والتفريق بينها وبين الانقلابات وغيرها -مع إهمال جزء وازن من الأدبيات المركزية في موضوع الثورات- توصّل إلى أنَ الثورة تحاكم بناءً على نتائجها، وبمعرفة المستفيد النهائي الأكبر من الأحداث، يقرر هل كانت الحالة ثورة أم انقلاباً أم مؤامرة خارجية.

يقول صديق باحث: "إنَّ تحديد الحالة بناءً على المستفيد النهائي ربما يكون منطقياً في علاقة من متغيّر واحد، لكنَّ التحوّلات التي تشهدها الدولة تؤثر فيها جهات داخلية وخارجية مختلفة، والنتيجة النهائية هي "محصلة قوىً" الثورة ليست أقواها؛ لخلو يد الشعب من أدوات القوّة التي قد تمتلكها هذه الجهات. فمعرفة المستفيد النهائي ربما تكشف عن "فاعل" كان مستترًا لضعف الباحثين والمحللين في الحصول على المعلومات، لكنه لا يعطيهم الحق في تجريد الثوّار من ثورتهم أو تشويهها، ويذكرني انتظار النتائج لتقرير وصف حالة ما بأنها ثورة أو انقلاب عسكري أو مؤامرة خارجية، بمنطق فقهاء التغلّب، الذين ينتظرون انتصار أحد الطرفين في حالات "الفتنة"، ليصبح الخارج على الحاكم إمّا باغياّ ظالماً إذا فشل، أو حاكماً مطاعاً بأمر الله إذا انتصر!".

ختامًا: إنَّ الثورات تحدد بأهدافها الساعية إلى إحداث تغيير في النظام، وممارساتها التي تكون خارج الأطر الدستورية والقانونية.. عند فشل هذه الأطر في تحقيق العدالة.







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي