ماوكلي في الغابة.. هل يعد "كتاب الأدغال" عملا استشراقيا استعماريا؟

2019-09-04

عمران عبد الله

 

ربما يؤثر هذا الموضوع على نظرتك لأحد أفلام طفولتك المفضلة، لكن الأمر حقا يستحق إعادة التفكير إذ يجد الناقدون ولا سيما من دارسي "الاستشراق" و"دراسات ما بعد الاستعمار" قدرا كبيرا من الأيديولوجيا العنصرية والتصورات الاستعمارية في ثنايا حكاية ماوكلي بالغابة.

وحظيت أعمال الأديب البريطاني روديارد كبلينغ (1865-1936) ولا سيما "كتاب الأدغال" بشعبية واسعة، منذ أن كتبها في نهاية القرن التاسع عشر وكانت مصدر إلهام للعديد من الأفلام والأعمال السينمائية.

ويتكون "كتاب الأدغال" من سبع قصص قصيرة تجري غالبا في غابات الهند التي كانت تحت الاستعمار الإنجليزي ورأى فيها الكاتب النور عام 1865، ونظر لقصته باعتبارها مفيدة للغاية فيما يتعلق بنظرة البريطانيين للسكان الأصليين في الهند وسواها.

رمزية الغابة

وفي غابة كبلينغ حيث يمكن تفسير كل مخلوق باعتباره رمزا، وتظهر براعة ماوكلي وتميزه على مملكة الحيوانات باعتباره رمزا لقدرة البريطانيين في الهيمنة على الهند، ويعي ماوكلي أنه لا يشبه الحيوانات كما لا يشبه الإنجليز السكان الأصليين في مستعمراتهم الهندية، ولا يستطيع ماوكلي البقاء مع الحيوانات في الغابة، ويعود لعالمه كما يعود الإنجليز لبلادهم في النهاية.

ويمكن تفسير رمزية القصة باعتبار أن ماوكلي يمثل البريطانيين، بينما تمثل الحيوانات شعب الهند، وفي القصة، يكون الفاصل الرئيس بين البشر والحيوانات هو "الزهرة الحمراء" أو المصطلح الذي تستخدمه الحيوانات للإشارة إلى النار، ولأنهم "أقل تمدنا وتطورا"، فإنهم لا يشيرون مطلقا إلى النار باسمها الصحيح. وتماما كما يفشل السكان الأصليون في فهم "التكنولوجيا الحديثة والحضارية" تظل النار لغزا مرعبا لحيوانات الغابة.

ويرمز النمر شيرخان في القصة لنقيض التحضر وخرق القواعد والقانون، وهو التبرير الاستعماري نفسه لغزو الأراضي الأجنبية، ولا ينتهك النمر المتمرد فقط قانون الصيد بل يقتل البشر ويحرض على ماوكلي، وتحتل النمور موقعا مميزا في الثقافة الهندية التي لا تخفى على الروائي الهندي البريطاني، إذ ترمز للشجاعة والشراسة.


بريطانيا ومستعمراتها

وفي مقالته المعنونة "إعادة قراءة روديارد كبلينغ" يرى الباحث في اللغة الإنجليزية بجامعة جونسو الفنلندية جوبي نيمان أن علاقة الشخصيات الحيوانية مع البشر في القصة ترمز لعلاقة السيد والخادم بين بريطانيا ومستعمراتها الهندية.

وبحسب نيمان كتب كبلينغ "كتاب الأدغال" لتأكيد وجهات النظر الاستعمارية، واختزل الهنود إلى الحيوانات وأظهر لنا لماذا كانوا غير مؤهلين لحكم أنفسهم.

وتنقسم شخصيات الحيوانات في القصة إلى فئتين مختلفتين، فهناك الذئاب "الصالحة" التي تتبع قوانين الغاب وتحافظ على التسلسل الهرمي للسلطة، وهناك الحيوانات "السيئة" مثل الكوبرا والقرود والنمر شيرخان التي لا تتبع القواعد وتسعى لتخريب قوانين الغابة، وتتعرض بسببها الحيوانات لعقاب البشر.

وفي "كتاب الأدغال"، يجري تصوير الهند أرضا باطنية مليئة بمخلوقات غرائبية وسحرية عجيبة، تماما كما في المنظور الاستشراقي، وعبر تمثيلهم بالحيوانات ينزع المستعمر إنسانية السكان الأصليين أو يقنعهم بافتقارهم إليه، ويبرر على مستوى اللاوعي فكرة أن الهند تعيش فيها مجموعة متنوعة من الحيوانات الفتاكة والغريبة التي يجب على البريطانيين الهيمنة عليها من أجل مصلحتها، تماما كما يقود ماوكلي حيوانات الغابة.

رؤية استشراقية

ويرى الفيلسوف الفرنسي مؤلف "المعرفة والسلطة" ميشيل فوكو، أن المعرفة وسيلة لامتلاك السلطة، وتلجأ السلطة لصناعة معارف خاصة تخدم مصالحها، وفي "كتاب الأدغال" يتميز ماوكلي على الحيوانات بالمعارف البشرية، فهو يعرف لغة الحيوانات وفي الوقت نفسه لسان البشر وثقافتهم التي تمكنهم من الهيمنة على عالم الحيوان، بما يبدو نوعا من التمثيل الرمزي لهيمنة الإنجليز على الهنود في جنوب شرق آسيا.

ويرى المنظّر الأدبي إدوارد سعيد في كتابه "الإمبريالية والثقافة" أن الشرق يجري تمثيله في الأدب الغربي باعتباره شهوانيا وجنسيا ومتخلفا وضعيفا ويجب أن يحكم وتصدر له الأوامر لينفذها، ويضيف سعيد أن الشرقيين لم ينظر إليهم مواطنين ولا حتى بشرا بل باعتبارهم مشكلات تتطلب الحل أو الحصر بالحدود والاحتلال، ويشبه هذا المنظور نظرة البشر للحيوانات في "كتاب الأدغال".


الهندي الإنجليزي

وكانت تجربة روديارد كبلينغ الشخصية بصفته طفلا ذا أصول هندية أساسا لهويته المركبة، وتشبه هذه الهوية المزدوجة ماوكلي، أو الإنسان الذي يعيش مع الحيوانات في الغابة، ويعيش بين الغرب والشرق، كما يعيش ماوكلي بين البشر والأدغال.

ومن وجهة نظر نيمان، يتم التعرض لقضايا الوطنية والعرق والطبقة في قصص "كتاب الأدغال"، بطريقة تسهم في "تصور اللغة الإنجليزية بصفتها موقعا للقوة والتفوق العنصري"، وشكل "كتاب الأدغال" جزءا من بناء "الهوية الوطنية الإنجليزية الاستعمارية".

وولد روديارد كبلينغ في مومباي بالهند، ويقال إنه قضى بسعادة سنوات طفولته هناك مع والدته ووالده قبل أن يعيدوه صحبة أخته الصغرى إلى إنجلترا للعيش مع أسرة حاضنة.

وكان شائعا بين المواطنين البريطانيين الذين يعيشون في الهند إرسال أبنائهم إلى المملكة المتحدة لتلقي تعليمهم، ولسوء حظ الشاب كبلينغ، انتهى به المطاف في أسرة لم يعامل فيها بلطف. وكتب في مذكراته التي صدرت بعد 65 عاما من وفاته، أن القسوة والإهمال اللذين تعرض لهما في سنوات إقامته في بريطانيا هما السبب وراء نشاطه الأدبي، إذ كان مضطرا لاختلاق الأكاذيب باستمرار وهو ما وسّع خياله ومداركه الأدبية.

واشتهر كبلينغ بمقولته التي تلخص نظرته للعالم، "الشرق شرق والغرب غرب، ولن يلتقيا أبدا".







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي