«ذات مرة في هوليوود» لكونتين تارانتينو: رحلة تصطخب بألوان وموسيقى وتشويق أمريكا الستينيات

خدمة الأمة برس
2019-07-29

 نسرين سيد أحمد

 
 
منذ اللحظات الأولى لبدء فيلمه الجديد «ذات مرة في هوليوود»، يضعنا الأمريكي صاحب الموهبة الفذة والبصمة السينمائية المميزة كونتين تارانتينو وسط عالمه الخاص تماما، وسمات أعماله التي لا يمكن أن تخطئها العين أو الأذن: حوار ذكي ساخر نطرب لسماعه، كما لو كنا نشاهد تسديد ضربات كرة يتبادلها لاعبون مهرة، فتصيب الهدف على الفور،
 
 خيارات موسيقية حاذقة تماما، تدخلنا وسط عالم الستينيات وأغانيه، عنف مثير لا يبدو لنا في عالم تارانتينو عنفا بل دفقة أدرينالين ننتشي بها، شخصيات ذكية، ومعرفة غزيرة بهوليوود. ولكنه يضيف عنصرا جديدا لعالمه في هذا الفيلم، فهو يقدم لنا نظرة فاحصة أيضا لعالم التلفزيون ومسلسلاته في
 
الستينيات، هي نظرة لا تقل ذكاء عن نظرته لسينما هوليوود.
 
تدور أحداث الفيلم في عام 1969، على أعتاب السبعينيات، وهي فترة لها أهميتها الخاصة في هوليوود، حيث شهدت مولد مخرجين جدد، مثل رومان بولانسكي، أسبغوا على هوليوود حللا جديدة، وتمردوا على سينما الجيل السابق، وشبوا عن الطوق، وكسروا سطوة شركات الإنتاج الكبرى ليصنعوا سينما تعبر عنهم وعن ذاتيتهم. وأعتاب السبعينيات ذات أهمية خاصة أيضا، في ما يتعلق بالشاشة الصغيرة، حيث وطدت المسلسلات التلفزيونية نفسها كملمح رئيسي للترفيه في المنازل، يتحلق لمشاهدتها ويتأثر بها وبنجومها الآلاف.
 
 
يضعنا الفيلم منذ لحظاته الأولى وسط حوار صحافي متلفز مع شخصين وسيمين كنجوم التلفزيون والسينما. إنهما الممثل ريك دالتون (ليوناردو دي كابريو) وبديله للمشاهد الخطرة كليف بوث (براد بيت)، اللذان يعملان في هوليوود، واللذان يجدان نفسيهما على حين غرة خارج السياق في هوليوود، فريك دالتون صنع شهرته في فترة سابقة، وانحسرت عنه الأضواء، لينتقل إثر ذلك للعمل في المسلسلات التلفزيونية، وحُكم عليه بلعب دور واحد متكرر، وهو دور الشرير. لم يعد ريك بطلا، بل مساعدا للبطل، وانحسر بالتالي دور بديله ليصبح مساعدا أو سائقا أو نديما للسهر والشراب. 
 
يحاول ريك الخروج من عالم مسلسلات الكاوبوي، التي يعتاش من التمثيل فيها، ليحقق مجدا سينمائيا جديدا، ولكنه يجد أن لا مناص له إلا أن يبقى على الهامش، وأن يكتفي بالتمثيل في أفلام السباغيتي ويسترن، التي تنتج في إيطاليا، بميزانية صغيرة، وبأهمية سينمائية محدودة أيضا.
 
 سيصحبنا تارانتينو في عالم ريك وكليف، بالكثير من الذكاء والكثير من السخرية، ولكن أيضا بالكثير من الحب. هما ثنائي نحبه على ضعفه ونواقصه، فريك يؤمن بانحسار الأضواء عنه، ويداوي ذاته الجريحة بالانغماس في الشراب، وكليف يعرف كيف يواسيه. لكنْ ثمة أمل، أو ربما وهم، يداعب مخيلة ريك، فمنزله الهوليوودي الأنيق، الذي اشتراه إبان شهرته، يتاخم منزل رومان بولانسكي (رافال زافيروشا)، المخرج الشاب الذي تحتفي به هوليوود، والذي بإمكانه أن يعيده إلى الأضواء إذا عرض عليه دورا في أحد أفلامه.
 
ويجدر بنا التنويه هنا إنه قبيل العرض الصحافي للفيلم ضمن المسابقة الرسمية في مهرجان كان لهذا العام، اعتلى خشبة المسرح مندوب عن تارانتينو ليوجه رسالة للصحافة، ألا تكشف من تفاصيل الفيلم ما قد يفسد متابعته على الجمهور، خاصة خاتمته. هو رجاء لاقى استحسان الكثيرين واستهجان البعض، إلا أنه طلب في محله تماما، في هذا الفيلم على وجه الخصوص، لأن خاتمته تحمل من جنون وروح تارانتينو المتفجرة الساخرة الذكية الكثير. هو فيلم يحبس أنفاسنا دهشة ويصحبنا في رحلة فيها من الجنون والعنف والإبهار الكثير، كما لو كان تارنتينو يعزف لحنا يعرف أنه سيجعلنا نتمايل طربا مع كل نغمة من نغماته، حتى الصاخب المدوي منها.
 
 تنتظرنا المفاجآت عند كل منعطف في الفيلم، الذي يتصاعد توتره وقدرته على حبس أنفاسنا مع كل لحظة. ألفنا تارانتينو ممسكا بزمام السرد في أفلام مكونة من قصص منفصلة/متصلة تكون سردية أفلامه، وكمخرج لا ينتهج سردا خطيا في أفلامه، وهذا ما نشهده في «ذات مرة في هوليوود». يقدم الفيلم ومضات من حياة ريك وكليف، ومضات نعيش فيها في أجواء هوليوود وأحداثها، التي يبني تارانتينو بعضها على وقائع حقيقية.
 
يقدم الفيلم، وهو التاسع في مسيرة مخرجه المتوج بسعفة مهرجان كان عن فيلمه «بالب فيكشن» عام 1994، تارانتيو ليس فقط كمخرج فذ ولكن أيضا كعاشق للسينما متبحر في عالمها. هو مخرج خلق بصمته المميزة بالمشاهدة النهمة للأفلام، أفلام فنون القتال الآسيوية، وأفلام السباغيتي ويسترن الإيطالية، وأفلام الحركة من الدرجة الثانية، ليضعها جميعا في بوتقته الخاصة للغاية، وينسج منها عالم أفلامه وعالم صنعته السينمائية المتميزة تماما. 
 
حتى في اختياره لعنوان الفيلم يبدو لنا أن تارانتينو يقدم تحيته الخاصة لسيرجيو ليوني، مخرج أفلام السباغيتي وسترن، الذي تأثر بأفلامه كثيرا، لكن تارانتينو لا يكتفي بأن يكون انغماسه في السينما مكونا لأسلوبيته المميزة، بل ينقلنا إلى عالم السينما ذاته. يمكننا القول إننا في «ذات مرة في هوليوود» نرى هوليوود ذاتها بعيني تارانتينو، هوليوود بنجومها وآلهتها وأنصاف نجومها وضحاياها.
 

 







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي