إيليا سليمان في فيلم «لابد أنها الجنة»: العالم أصبح يشبه فلسطين المحتلة

خدمة الأمة برس
2019-07-16

 في فيلم «لابد أنها الجنة «( IT MUST HEAVEN) الذي حاز جائزة الاتحاد الدولي للنقاد لأفضل فيلم في مهرجان كان في دورته 72. سيبدأ المخرج إيليا سليمان وبديله على الشاشة، رحلة هجرة قسرية من وطنه المحتل فلسطين، إلى نيويورك عبر باريس. يدرس المخرج ثلاث مدن، في ثلاثة مشاهد لرجل مطارد بالتهجير، وعدم الاستقرار حتى في الأرض الجديدة، التي أصبحت عنيفة وغير آمنة في كل أمكنتها (البوليس وشرطة الحدود والعنصرية). ولكن دائما حياته الجديدة في فيلمه، يحولها إلى كوميديا ساخرة من الحياة. بذكاء يحاول المخرج إيليا سليمان أن يخبرنا في فيلمه: «لا بد أنها الجنة» بمعادلة توازنية مبنية على نصف هزلية ونصف جدية. يحكي فيلمه، قصة رجل فلسطيني غادر مدينة الناصرة في فلسطين المحتلة. يبحث عن وطن بديل يتمثل بأرض استقبال ما بين باريس ونيويورك.

في اليوم الذي قابلنا فيه المخرج، لم يكن أحد قد شاهد الفيلم بعد، ولا يريد أن يقول الكثير عنه. في البداية، يبدو أن المخرج إيليا سليمان يعيش في المنزل الذي كان والداه يسكنانه في الناصرة في فلسطين المحتلة. لكن لا نرى ذلك بشكل ملموس، فهو لا يزال غامضاً. لا ندري ما إذا كان يأتي حقًا من هناك… إيليا سليمان يستعد ويسافر لباريس، معتقدا أنه «يجب أن تكون باريس جنة». قائلا مازحا، تاركا مساحة من الصمت لمراقبة جمهوره بشكل أفضل. في البداية يرى أشياء رائعة في الوطن البديل، ثم يواجه أشياء تذكره بوطنه فلسطين المحتل، الاستنفار الأمني للبوليس والتفتيش اليومي لأجانب، ويشعر بالعنف في كل مكان في باريس. نشعر بالتوتر يصل للمخرج إيليا سليمان، ثم يغادر إلى نيويورك. 
 
هل ينسحب في مواجهة هذا العنف؟ بالعكس، بل ينطلق في ابتسامة عريضة، ولكن من المستحيل معرفة الكثير في هذا المضمار. بالنسبة لمدينة نيويورك المخرج إيليا سليمان يواجه الإشكاليات الأمنية نفسها. فيعود من جديد للناصرة، لكن هذه ليست عودة وينتهي الفيلم بتساؤل عن الاندماج المستحيل وعن أي وطن بديل يمكننا العيش فيه بعيدا عن التفتيش والبحث الذاتي. أجواء الفيلم يغلب عليها الصمت، والاستعارات الشعرية، هناك أملاً جديدًا للآخرين ولسليمان نفسه.. يكمن هذا الأمل في الجيل الجديد الفلسطيني لسبب بسيط وجميل: «إنه لا يغريه المجتمع الاستهلاكي الغربي، بل يبحث بهمة ونشاط عن ثقافة بديلة، تعنى باستكشاف الهوية والجنسية والانتماء».
 
منذ مرور سنوات على فيلمه «الزمن الباقي» عام 2009، الذي شارك رسميًا في الدورة الـ62 لمهرجان كان. وهو يسعى إلى تصوير هذا الفيلم، كقصة ملحمية، مطعّمة بالفكاهة، يحاول عبرها استكشاف الهوية والجنسية والمنفى، وكما تقول رئيسة قسم المونتاج في فيلمه: «العاطفة التي يسعى إليها لا يمكن إلا أن تكون ثمرة عملية إبداعية طويلة». ناهيك عن أن أفلامه لم تعرف نجاحات تجارية ضخمة تمامًا… فقد استغرق تجميع الأموال اللازمة لتمويل وإنتاج الفيلم الكثير من الوقت بثلاث فرق في ثلاث دول مختلفة». وتقول زوجته المغنية ياسمين حمدان كذلك: «عندما يطبخ، وهو يحب الطبخ، تتكون فكرة ما في رأسه. فكتابة السيناريو عنده مبهرة بأطباق رائعة».
 
منذ عشر سنوات، كان إيليا سليمان الحالم يراقب العالم، يقول «حياتي تتكون بشكل أساسي من المتعة التي تمنحها لي الأشياء الجيدة، والمشي لمسافات طويلة، والتأمل وحيدا»، ينتظر الأشياء التي تأتي إليه، ولا يذهب إليها. ثم يأخذها في رحلة داخلية للتساؤل عن الطريقة التي يتردد صداها في داخله. «أبحث وأرى وأقارن نفسي ببقية العالم». لسنوات، قام إيليا سليمان بتلوين كراساته برسومات ورؤوس أقلام لأفكار وأصوات وصور… والحوادث التي تخلق القصص والأفكار الشعرية التي تطرق باب خياله، ولكنها لم تنضج بعد في ذهنه».
 هناك علاقة روحية بين ما يراه المرء، وحالة وجوده الروحي في مرحلة معينة من الحياة». تشكل هذه التجارب مجتمعة عالمًا غامضًا، في مكان ما بين الخيال وأشياء أخرى، ولكن لا يزال العمل الإبداعي، يستغرق بعض الوقت للعثور على شيفرة الاتصال الغامض. يعمل إيليا سليمان في كل مشهد بحرفية مثل رسام على لوحة «لقد وضعت أصباغ طبقة واحدة تلو الأخرى، حتى أحصل على التجربة البصرية والسينمائية المرادة». وفوق كل ذلك، عندما أصل إلى مرحلة النضج، أعطيهم قراءات متعددة.
 
يقول إيليا إن المشاعر الإنسانية في فيلمه، التي تدور رحاها لعدة أشهر، لكي يصبح التعبير عنها ملموسا أو مجرد ا كضرورة مطلقة: «تأتي من الداخل، ومن الخارج أيضًا». كما كل أفلامه، الكل ناتج عن تفاعل بين الحالة الشخصية للمخرج والبعد السياسي للعالم، في وقت التفكير فيه. في «سجل اختفاء» (1996)، فإن اتفاقات أوسلو التي وقّعها رئيس الوزراء الإسرائيلي المغتال إسحق رابين وزعيم منظمة التحرير الفلسطينية ياسر عرفات في حالة من الفوضى، وفلسطين تنهار في مأساة إنسانية لشعب ليس فقط أرضه المحتلة، ولكن في هويته التي سُرقت منه في كل أنحاء الدنيا.
 ثم تقوم الانتفاضة الثانية يتعرض هذا البلد إلى موجة من العنف، بحيث يبدو أن التدخل «الأيادي الإلهية» DIVINE INTERVENTION فقط عنوان فيلمه عام 2002، قادر على انتزاعه. بعد ذلك، يواجه إيليا سليمان اكتشاف «الزمن الباقي» (2009)THE TIME REMAINS  والحاجة الملحة للعمل من أجل فلسطين المحتلة، ومن أجله أيضًا.
 
فيلمه الروائي الأخير «لا بد أنها الجنة» يؤكد هذه القاعدة. يعكس حالة الاستثناء التي يعيشها العالم. اليوم، لديك نقاط تفتيش في أي مدينة. وجهاز الأمن في كل مكان. يظهر هذا العنف المعولم جليا، لقد أصبح هذا العالم نوعًا ما يشبه فلسطين المحتلة.
يقول المخرج: «أبحث وأرى وأقارن ببقية العالم»
هذا العنف، يستحضره إيليا سليمان من خلال الوجود المكثف للشرطة، «إنها تمثل نظام سلطة». أصبحت الشرطة جزءًا من فيلمه الهزلي، التي تقارن بأعمال بوستر كيتون، الذي يعتبره أكثر إثارة للضحك والهزل: «لأن الفكاهة عندي تأتي من شكل من أشكال اليأس وتخرج كشكل من الأمل. الضحك هو وقف الزمن لجزء من الثانية. الصمت الذي يأتي من قبل والصمت الذي يأتي ببعد سياسي للغاية». العنف في الأخير ذريعة لكشف جو معين، يعتبره المخرج «البطل الحقيقي» لفيلمه.
البناء الدرامي لأبطال أفلامه ليس خطيًا أبدًا، بل مظهر شخصياته وزمنهم النفسي في الفيلم هي التي تقودنا إلى ذلك. تقول فيرونيك لانج: «ما أجمل إيليا سليمان والمكان الذي يضعك فيه. يوضح التفاصيل، والأشياء الصغيرة أمام أعيننا… زمن الصمت عنده موظف بطريقة إيقاع ووتيرة تثير العاطفة وسوداوية السخرية».
 
 التي تحضر كذلك جميع مراحل الإنتاج: «إيليا سليمان لا يستسلم أبدًا حتى يحصل على ما يحتاجه بالضبط للفيلم». هكذا تمت إعادة تصميم الألعاب النارية، التي صنعت أولاً من لقطات أرشيفية، بالكامل في مؤثرات خاصة في اللحظة الأخيرة. لم تناسبه، وجدها غير مثيرة، فإعادة المشهد جعله يكتسب مساحة من الإبهار في المشهد، عن طريق اختيار الإيقاع وعدد المتفرقعات وألوانها. وتتبعه حتى النهاية. وهذا في حد ذاته أمر رائع بالنسبة لمتفرقعات نارية في الفيلم. 
 
المخرج إيليا سليمان دائما يبحت عن الدقة في عمله. شديد المطالب من نفسه ومن الآخرين، وهو أيضا كريم جدا». لقد فكر إيليا سليمان في فيلمه «لا بد أنها الجنة» أن تكون رحلته تعكس الهوية الفلسطينية والصراعات التي يعيشها الفلسطيني بسبب الاحتلال الإسرائيلي، حتى في أماكن في بلاد المهجر، وليست فقط عابرة . «كنت خائفًا جدًا من أن أكون سائحًا في كل بلد من البلدان الثلاثة، لكنني الآن واثق تمامًا من أنني لم أسقط في هذه الرؤية». يعرف المخرج الناصرة منذ نشأته في نيويورك لمدة أربعة عشر عاماً في مراحل متقطعة، وباريس منذ أن أصبحت مدينته في عام 2002. يتحدث كفلسطيني بسهولة أكبر عن «شكل من أشكال البداوة المعاصرة» أو «تجربة المنفى» أو كنفي داخلي، لأن هذه التجربة التي مرّ بها، كانت في نهاية المطاف طوعية.
 
مثل ما في الحياة الحقيقية، إيليا سليمان كبر ونضجت رؤيته السينمائية عبر أفلامه.. في عام 2019، لم يعد يقفز الجدار الفصل العنصري الذي يفصل بين إسرائيل وفلسطين المحتلة بعصا رياضية، كما كان يفعل في فيلم «الزمن المتبقي». فالشيء الرائع في فيلم «لا بد أنها الجنة»، أنه يسمح لنا بأن نراه على طبيعته، بلا عناء، في كل نضجه الإبداعي، بعد أن نحت الزمن وجهه». فإذا كان في الماضي يقدم عائلته في الأفلام السابقة، فإنه اليوم، هو الوحيد الذي يريد أن يراه الجميع كفلسطيني. ترافقه فلسطين دوما. ويرى انعكاس مأساتها وتفاصيلها في الكثير من تفاصيل تلك المدن التي عاش فيها. في فيلمه، لا توجد قصة حب، ولا امرأة، ولا أب، ولا أم. تقول فيرونيك لانج: «رحلة لا تصدق، استغرقت عشر سنوات لعمل هذا المسار بهذه الكثافة والعمق النادرين».
 
يقول إيليا أخيرا: «لو كان قد تم تصميم الفيلم في وقت سابق، ما كنت سأحصل على الفيلم الذي أردته. استغرق الأمر بعض الوقت حتى تنضج الفكرة. أنا في انتظار وما زلت أنتظر، وأحيانًا أنتظر طويلا جدًا. علاوة على ذلك، إذا بدأت يومًا ما في فيلم روائي جديد، سأحاول التفكير بجدية لتحقيقه بشكل أسرع قليلاً».
 
٭ عن مجلة «تلي راما» الفرنسية/ قسم النقد.
 






كاريكاتير

إستطلاعات الرأي