رحلة خريفية في قلب الأندلس.. مدن تحمل رائحة الشرق

الأمة برس
2025-09-15

رحلة خريفية في قلب الأندلس.. مدن تحمل رائحة الشرق (زهرة الخليج)حين نقول: «الأندلس»؛ فإننا نستحضر المكان، الذي يغني فيه الحجر، كما تغني الطيور، وتفوح منه رائحة التاريخ، ممتزجة بعطر أشجار الزيتون والبرتقال والنارنج. هنا، تتجاور العمارة المهيبة مع الأزقة المرصوفة بالحجارة العتيقة، وتحضر خطوات العربي منقوشة في الجادات والميادين. كما نستعيد سيرة ابن زيدون، والشاعرة ولادة، وحكايات الحب والمجد، التي خلدها العرب؛ فتغنى بها - بعد قرون - نزار قباني، وكريم معتوق. في هذه الأرض المفتوحة على السياحة والثقافة والجمال، يلتقي «الغجر» بأغاني «الفلامنكو»، ويتردد صوت الغيتار الإسباني كصدى بعيد لروح «الأندلس». ويكفي أن تطل من نافذة قطار، يشق طريقه عبر بساتين الزيتون، وأودية البرتقال؛ لترى «الأندلس» تلوح أمامك كحلمٍ معلق بين السماء والأرض. هنا، تتعانق الأرواح مع الحجارة العتيقة، وتتساقط الحكايات على أرصفة المدن كأزهار برية لا تذبل. في «الأندلس»، كل نسمةٍ لحنٌ، وكل ظلٍّ ذاكرةٌ، وكل خطوةٍ مشهدٌ يلامس القلب قبل العين، بحسب زهرة الخليج.

في سبتمبر، حين يحمل الخريف بشائره الأولى، تتزين «الأندلس» بألوان الطبيعة وسحر المناخ المعتدل؛ وتنضج عناقيد العنب في الكروم، وتفوح رائحة البرتقال من حدائق القصور، ويخف زحام السائحين؛ فتمنحك المدن فسحة؛ لتتنفس تاريخها، وتعيشها بطمأنينة وهدوء. تمتد هذه الأرض كعقد زمردي على الطرف الجنوبي الغربي من إسبانيا، حيث يلتقي المحيط الأطلسي والبحر الأبيض المتوسط، ولا يفصلها عن المغرب سوى 14 كيلومتراً عبر مضيق جبل طارق. وعلى مدى قرون، كانت جسراً بين القارات والحضارات، وملتقى للفينيقيين والرومان والعرب والموريسكيين، ومن هذا التداخل وُلدت شخصيتها الفريدة، التي تجمع الشرق بالغرب، والبحر بالصحراء، والموسيقى بالشعر. في «الأندلس»، تمتزج حرارة الشمس بنسمات البحر، ويتداخل الأزرق بالأخضر في لوحات طبيعية، لا تُشبه إلا نفسها. ومن يمر بين أزقتها المرصوفة بالحجارة، والموشاة بروائح البرتقال والياسمين، سيحمل معه ذكرى لكل زاوية، وصورة لكل مشهد. وفي رحلتك الخريفية، لابد من التوقف في أهم مدنها، التي تجمع عبق الشرق وروح الغرب.

إشبيلية.. قلب الأندلس المتألق

عاصمة إقليم الأندلس، وواحدة من أروع مدن إسبانيا، من حيث التاريخ الفني، والأثر المعماري، حين دخلها العرب في القرن الثامن الميلادي نطقوا اسمها «إشبيلية»، وهنا تعاش المدينة بكل الحواس؛ ففي النهار تفيض ساحات «ريال ألكازار» (القصر الملكي الفخم)، بزخارفه الموريسكية، وحدائقه المظللة بأشجار البرتقال العطرة. وعلى بُعْد خطوات، تفرض كاتدرائية إشبيلية حضورها الهائل، بينما يشكّل برج «الخيرالدا» مشهداً بانورامياً، يحتضن المدينة، ويكشف أسطحها القرميدية الحمراء. وفي حي «سانتا كروز»، تتعرج الأزقة كخيوط ضوء تتفتح على باحات صغيرة، تتوسطها نوافير رخامية، حيث تنتشر المقاهي، وتعبق الأجواء برائحة القهوة الإسبانية الثقيلة، وعصير البرتقال الطازج، فيما ينساب صوت «الفلامنكو» من زوايا البيوت التقليدية. 

في هذه الرّحلة هناك تجارب لا تُفَوَّت، منها: جولة بالقارب في نهر الوادي الكبير وقت الغروب، وزيارة ساحة إسبانيا الشهيرة بفسيفسائها الملون، وركوب عربة الخيل في شوارع البلدة القديمة، وحتى استكشاف المدينة بالدراجة على ضفاف النهر. وعند حلول المساء، يمكن حضور عرض فلامنكو أصيل بأحد البيوت التقليدية، قبل أن تختتم يومك بتذوق أطباق المأكولات البحرية الطازجة، التي تشتهر بها مطاعم المدينة، إلى جانب تنوع فريد من أطباق «التاباس»، والنكهات الأندلسية الفريدة.

قرطبة.. مدينة الأقواس والحدائق

قرطبة، جوهرة الجنوب الإسباني، التي تستلقي على ضفاف نهر الوادي الكبير (Guadalquivir)، حاملة بين أزقتها الضيقة، وجدرانها البيضاء، تاريخاً يمتد من العهد الروماني إلى أوج الحضارة الإسلامية في أوروبا. هنا، تتجاور بيوت الفناءات المليئة بالياسمين والقرنفل، فيغمر الزائر إحساس بأنه يسير في لوحة فنية نابضة بالحياة، تتعطر بالمقاهي والمطاعم، وتنبض بالفن والمهرجانات والموسيقى. ومن أهم الأماكن السياحية فيها: الجامع الكبير (La Mezquita)، فهو تحفة العمارة الإسلامية في الغرب، بأقواسه المزدوجة، وزخارفه المدهشة، وفنائه المليء بأشجار البرتقال العتيقة. وجسر قرطبة الروماني، الذي يمتد منذ نحو 2000 عام، رابطاً ضفتَي النهر، ومانحاً الزائر مشهداً بانورامياً يأسر الأنظار عند الغروب.

في سبتمبر، حين يخف وهج الصيف وتعتدل الأجواء، يصبح المشي بين أروقة الجامع الكبير أكثر متعة، فيما يملأ الضوء الذهبي ساحات البرتقال، وتدعو الأزقة الحجرية إلى نزهات هادئة. ويمكن للزائر أن يختتم يومه بجلسة استرخاء في أحد الحمامات التقليدية، وجولة في الأسواق التي تعرض السجاد والخزف المصنوع يدوياً، قبل أن يترك المدينة، مُحمَّلاً بعبق تاريخها، وألوانها.

غرناطة.. حكاية «الفردوس المفقود»

غرناطة هي قلب «الحلم الأندلسي»، و«قصر الحمراء» يظل أيقونتها الخالدة؛ بباحاته المائية مثل «فناء الأُسود»، وجدرانه الموشّاة، التي تتوهج تحت ضوء الغروب. من حي «البيازين»، تتسع الإطلالة على القصر، فيما تتعرج الأزقة الحجرية كخيوط فضية، تروي حكايات قرون مضت. ولكن غرناطة تحمل ما هو أبعد من «الحمراء»؛ حدائق «الجنراليفه» بمدارجها الخضراء، ونوافيرها الرقراقة، التي تمنح الزائر إحساساً بالسكينة، بينما تنبض ساحة «نويفا» بالحياة منذ الصباح وحتى المساء، حيث تتوزع المقاهي والمتاجر الصغيرة. وهناك التجارب التي لا تُفوت، منها: حضور عرض فلامنكو في كهوف «ساكرومونتي»، والتجول في أسواق الحِرَف الشرقية، وتذوق الشاي في مقهى تقليدي بإطلالة على القصر. 

في سبتمبر، تتألق غرناطة بألوان الخريف؛ ويتوهج «قصر الحمراء» في ضوء الشمس المعتدل، وجبال «سييرا نيفادا» خلفه قد تكتسي لمسات بيضاء مبكرة، تبعاً للمواسم. وفي حدائق «الجنراليفه»، يلون الخريف الممرات بظلال ذهبية؛ فتتحول الجولة بين النوافير والأشجار إلى مشهد شاعري آسر. إن التجول في حي «البيازين» يمنحك إطلالات متجددة على «القصر»، بينما المقاهي التقليدية تقدم الشاي والحلويات الشرقية، وفي المساء تتحول المدينة إلى مسرح مفتوح، حيث الأضواء الناعمة وأنغام الموسيقى تملأ الساحات. وتكتمل الحكاية إن قضيت ليلة على إيقاع الفلامنكو، أو مررت بكهوف «ساكرومونتي»، أو تجولت بين الأسواق التي تعرض السيراميك الملوّن.مالقة.. بين البحر والتاريخ

مالقة، مدينة الشمس والبحر، تحتضنك بانسيابية على ساحل «كوستا ديل سول»، حيث تبدأ نهارك بجولة هادئة على الكورنيش، أو سباحة خفيفة تحت السماء الصافية. وتنثر «قلعة القصبة» عبق العصر الإسلامي على المدينة، فيما يهمس المسرحُ الروماني، المقارب، بتاريخ قرون مضت. وفي البلدة القديمة، تصطف الأزقة الضيقة التي تعج بالحياة، وتنتشر المقاهي التي تقدم «التاباس» (المقبلات الإسبانية) بنكهات البحر. أما متحف بيكاسو، فيعرض مسيرة الفنان الراحل منذ طفولته، وهو محطة ثقافية دائمة. ولعل من أبرز التجارب التي لا تُفوت: جولة بالدراجة الهوائية على الشاطئ، والتسوق في سوق «أتاراثاناس» الشعبي، وتذوق الأسماك الطازجة المشوية على الفحم.

مالقة في الخريف هي لقاء البحر بالتاريخ؛ فشواطئها أقل ازدحاماً، والمياه أكثر صفاءً، ونسيم البحر يحمل رائحة الملح والنضج. وفي الأسواق الشعبية، تُعرض ثمار الخريف الطازجة، من العنب إلى التين، والعشية تنتهي في مقهى تقليدي، حيث تتصالح مع الوقت على مهل!









شخصية العام

كاريكاتير

إستطلاعات الرأي