العبادات والمعاملات توازن بين الروح والسلوك

الأمة برس
2025-05-31

الإسلام يقدّم مفهومًا راقيًا وشاملًا للعبادة، لا يقتصر على الصلاة والصوم، بل يشمل كل نية صادقة، وكل عمل نافعبلقيس العفيف*

في زحمة الحياة اليومية، ومع تزاحم المسؤوليات وتقلّب الأحوال، يبحث الإنسان دومًا عن معنى السلام الداخلي عن الهدوء وعن الاتزان بين ما يؤمن به وبين ما يعيشه واقعا في حياته اليومية. وتأتي نعمه الإسلام، بمنهج متكامل، ليجيب على هذا البحث الإنساني العميق من خلال رسم طريق متوازن بين الروح والسلوك رسم طريق ما بين العبادات التي تربط الإنسان بخالقه، والمعاملات التي تنظّم علاقتنا بالناس والحياة ومن هنا أقول ان الإسلام لم يعطينا مجرد شعائر تؤدّى ثم تُنسى، بل ليُحدث تغييرًا عميقًا وشاملاً في النفس الإنسانية والسلوك، تغييرًا يبدأ من داخل القلب لينعكس على السلوك، من المسجد إلى السوق والعمل، ومن السجود إلى العلاقات، ومن ذكر الله إلى خدمة الناس والتعاملات مع بعضنا البعض.
ولهذا اشدد بالقول من هنا ان العبادات في الإسلام هي غذاء الروح وطريق السكينة، وعماد العلاقة بين العبد وربه، وهي مظهر الإيمان وخضوع وسكينه القلب. فجميع العبادات من الصلاة إلى الصيام، ومن الزكاة إلى الحج، كلها أدوات تربوية تعيد ترتيب أولويات النفس. فالصلاة، هي عماد الدين كما نعلم. وليست مجرد حركات، بل هي لقاء روحي متجدد خمس مرات في اليوم، يُجدَّد فيه العهد مع الله وتُغسل به اوساخ وذنوب اليوم. أما الصيام، فهو شهر من التمرين على ضبط الشهوات، وتذكّر الفقراء، والشعور بالامتنان. والزكاة تُطهِّر المال، وتؤكد أن الرزق من عند الله وحده. وأما الحج، فهو تجسيد لوحدة الأمة وتجريد الإنسان من المظاهر ليرتدي ثوب التواضع والانقياد لله. غير أن الأهم من أداء العبادات هو أثرها في النفس والسلوك، فالعبادة الصادقة لا بد أن تنعكس على الأخلاق والتصرفات، وقد قال الله تعالى: "إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر"، فإن لم تُصلِح العبادة صاحبها وتغيره للأفضل، فهناك خلل في فهمها أو تأديتها بلا شك.

ولهذا فان المعاملات في الإسلام مرآة الإيمان وسلوك الحياة التي تنعكس على شخصيتنا، فهي ليست أمرًا ثانويًا او اعتيادي بل هو امتداد طبيعي للعبادة، إذ لا معنى لصلاة من لا يصدق في حديثه، ولا لصيام من يغتاب الناس، فذلك لم يفهم رسالة الإسلام على حقيقتها. المعاملات تشكل الامتحان الحقيقي للإيمان، لأنها تظهر في تفاصيل الحياة اليومية. تظهر في البيع والشراء، في الزواج والطلاق، في العمل وبين الجيران، في المال والأمانة، في الرحمة والعدل. وقد قال النبي عليه أفضل الصلاة والسلام: "الدين المعاملة"، وقال أيضًا: "إنما بُعثت لأتمم مكارم الأخلاق"، وفي هذا تتجلى عظمة الإسلام، الذي لا يفصل بين العقيدة والسلوك، بل يوحّدهما في منظومة متكاملة تؤكد أن العبادة الحقيقية لا تكتمل إلا إذا انعكست على حسن المعاملة، وأن المعاملة الطيبة في ذاتها عبادة يُثاب عليها المسلم امام ربه يوم القيامة..

فمن هنا أستطيع ان أقول ان لا روح بلا سلوك ولا سلوك بلا روح. فبعض الناس، نرى من يغرق في العبادات، لكنه فظّ في تعامله، سيّئ الظن، أو ظالم في ممارساته ومعاملاته، وعلى النقيض، نرى من يتعامل بلطف مع الناس، لكنه لا يصلي ولا يصوم. وكلا الفريقين قد فاته التوازن الذي يدعو إليه الإسلام. فالنبي محمد عليه أفضل الصلاة والسلام، كان خير من تعامل مع الناس." وإنك لعلى خلق عظيم"؛ كان يبتسم، يعفو، يلين، يعدل، ويحنو، حتى علي أعدائه وهذا ما نحتاجه في مجتمعنا
فكيف لرجلٍ أن يكون أعظم الناس خلقًا، وهو في الوقت نفسه أكثرهم ع التوازن الذي يكون عبادة تُصلح الداخل، ومعاملة تُجمّل الخارج..

فعندما نقرأ سيرة الصحابة، نجد هذا التوازن حيًّا نابضًا في حياتهم. فأبو بكر الصديق كان إمامًا في العبادة، وفي الوقت ذاته إمامًا في العدل والرحمة. وعبد الرحمن بن عوف، رغم كونه تاجرًا ثريًا، أنفق ماله بسخاء وسعى في قضاء حوائج الناس. أما عمر بن الخطاب، الرجل القوي الحازم، فكان يخاف الله في كل قرار، ويقضي لياليه ساهرًا على راحة الناس. هؤلاء الصحابة لم يفصلوا بين المسجد والسوق، ولا بين الصلاة والعمل، بل جعلوا من كل لحظة في حياتهم عبادة حقيقية تعكس صدق الإيمان وعمق الفهم للدين

الإسلام يقدّم مفهومًا راقيًا وشاملًا للعبادة، لا يقتصر على الصلاة والصوم، بل يشمل كل نية صادقة، وكل عمل نافع، وكل ابتسامة، وكل كلمة طيبة، وكل إحسان إلى الناس، وكل جهد تبذله من أجل أهلك أو مجتمعك؛ فهو في ميزان العبادة. قال النبي عليه أفضل الصلاة والسلام: "وفي كل كبدٍ رطبةٍ أجر"، وقال أيضًا: "تبسُّمك في وجه أخيك صدقة". بل إن اللقمة التي تضعها في فم اولادك أو التعب الذي تبذله من أجل أولادك، إذا نويت به وجه الله، أصبح عبادة خالصة تدخلك الجنة.
وفي خاتمه مقالتي هذه اشدد بالقول إن الإسلام لا يريد من الإنسان أن ينعزل، ولا أن يعيش بلا روح، بل يدعوه إلى حياة متزنة، يعيش فيها لله ويعيش فيها للناس ايضا. فان العبادة تربي القلب، والمعاملة تكشفه، فكن ذا قلبٍ يخشع في الصلاة، ولسانٍ يصدق في الحديث، ويدٍ تمتد بالخير، وروحٍ تحب الله وتُحسن إلى عباده. فهذا هو الإسلام الحقيقي... توازنٌ بين الروح والسلوك، بين الإيمان والعمل، بين العبودية للرحمن والرحمة لعباد الله. فالحمد الله علي نعمه الإسلام والمسلم هو من سلم الناس من لسانه ويده...


*كاتبة يمنية أمريكية










شخصية العام

كاريكاتير

إستطلاعات الرأي