ديكتاتورية الترفيه: البشرية هالكة بما تهوى

2025-02-22

مالك التريكي*

 

اختلف الروائيان البريطانيان جورج أورويل وألدوس هاكسلي حول آليات الضبط والتحكم السياسي والاجتماعي في الزمن المعاصر. وكان كل منهما قد أصدر رواية ناجحة تخيل فيها أحد السيناريوهات الممكنة للتحكم الكلي في كيان المجتمعات. تحكم سلطوي عند أورويل وتجاري عند هاكسلي. فقد صور أورويل في «1984» مجتمعا مُخضَعا بالقهر والعنف لنظام سياسي قائم على الخوف والكذب والوشاية والتجسس على حركات الجميع وسكناتهم وتسخير الأطفال عيونا على عائلاتهم، مع ترداد ببغائي لشعارات غبية من قبيل «الحرب سلام والحرية عبودية والجهل قوة». أما هاكسلي فقد صور في «دنيا جديدة رائعة» مجتمعا محكوما بمخططات العلم التي تبرمج البشر برمجة بيروقراطية لأداء أدوار مقررة، ولكنه مجتمع منعّم بكل أنواع التسلية والترفيه، بما في ذلك المخدرات والجنس، والاستهلاك الرأسمالي الوفير القائم على الخلق المستمر لاحتياجات جديدة متجددة. تخيل أورويل «ديستوبيا» مشؤومة قاتمة، مصيرُ المجتمعات فيها أن تنسج على المنوال السوفييتي مع توسّع في العسف وتفنّن في الاعتباط. أما هاكسلي فقد توقع، في ديستوبيا وردية ناعمة، أن المجتمعات المعاصرة آيلة إلى استنساخ النموذج الرأسمالي الأمريكي بتفاهة لعبه ولهوه وبسماجته المعممة على جميع مناحي الحياة تعميما استبداديا مخاتلا لأنه استبداد سلمي لا أثر فيه لشرطة أو عسكر. أي أن قصة الخيال العلمي عنده مضت بالأمْرَكة إلى أقصى حدودها وأوخم صيغها تجويفا للمعاني وسلبا للإرادة الإنسانية لأن مدار الأمر فيها ليس إخضاع الناس وترهيبهم وإحصاء كلماتهم وتصرفاتهم بل هو تمييعهم وتدليلهم بالتحكم في رغباتهم.

وقد انعقد بين أورويل وهاكسلي في هذا الشأن حوار شيق لا متسع للخوض في تفاصيله. وكان من الصعب على المتابعين الحسم بين التصورين أيهما أكثر انطباقا على المستقبل القريب. إلا أن نيل بوستمان قد حسم! ذلك أن كتابه «ترفيها إلى حد الموت» (1985) الذي قدمناه الأسبوع الماضي، إنما يمثل انتصارا لرؤيا هاكسلي. حيث يقول بوستمان إن ما كان يخافه أورويل هو منع الكتب، أما ما كان يخافه هاكسلي فهو أنه لن يكون مِن داع لمنع الكتب لأنه لن يكون ثمة من يريد القراءة أصلا! كان أورويل يخاف أولئك الذين يريدون حرمان الناسِ الأخبارَ والمعلومات بينما كان هاكسلي يخاف الذين يعرضون عليهم من الأخبار فيضا يؤول بهم إلى التخاذل والأنانية وتبلّد الحس. كان أورويل يخاف أن تُحجب الحقيقة بينما كان هاكسلي يخاف أن تغرق الحقيقة في بحار من التوافه والمُلهيات.

قِصَر فترة الانتباه والتركيز عند المشاهدين وشهيتَهم للمحتوى الممتع أو المريح
إنما ينسفان قدرة الإعلام على إنتاج أي خطاب ذي معنى



كان أورويل يخاف أن تصبح الثقافة رهينة (لدولة الاستبداد الكلي ممثلة في «الأخ الأكبر») بينما كان هاكسلي يخاف أن تصبح الثقافة سخيفة. في «1984» تتحكم الدولة في الناس بالأذى والألم، أما في «دنيا جديدة رائعة» فالتحكم يكون بالتسلية والمتعة. جوهر المسألة، حسب قول بوستمان، هو أن أورويل كان يتوقع أن ما تكرهه الإنسانية هو الذي سيؤدي إلى هلاكها، أما هاكسلي فتوقُّعُه أن هلاكها سيكون في الذي تهوى وتعشق!
ووجه التميز في طرح بوستمان أنه نافح عن رؤيا هاكسلي رغم أنها لم تكن تثير المخاوف، بل لم تكن معروفة على نطاق واسع؛ بينما تجرأ على تخطئة رؤيا أورويل رغم أنها شائعة شعبيا ورغم أن عامة الغربيين كانوا يتوجسون من احتمال تحققها عندهم تعميما وإتماما لما بدأه النموذج السوفييتي. وفي ذلك يقول إن التعرف على عالم أورويل ومقاومته أسهل بكثير من التعرف على عالم هاكسلي، فالبشر مهيؤون لمعرفة السجن ولمقاومته حالما تبدأ بواباته في الانغلاق عليهم، ولكن من ذا الذي يستطيع أن يشهر السلاح في وجه بحر متلاطم من الترفيه والإمتاع؟!
ومما يُروى أنه لما راج كتاب بوستمان وأحدث رجّته في الوسط الثقافي، استضافه تَدْ كوبّل، ذلك المذيع الأمريكي المَهيب والمُحاور النادر النظير، في برنامجه الشهير «نايتلاين» على شبكة أي. بي. سي، فكان من طرائف الحوار أن بوستمان أراد أن يثبت كيف أن قِصَر فترة الانتباه والتركيز عند المشاهدين وشهيتَهم للمحتوى الممتع أو المريح إنما ينسفان قدرة الإعلام على إنتاج أي خطاب ذي معنى، فقال: «هاك مثالا على ما أقول يا تد: نحن الآن في نقاش مهم حول الثقافة، ولكن علينا بعد ثلاثين ثانية أن نتوقف بسبب فاصل إعلاني يدلّل صاحبه على سيارة أو معجون أسنان. فقال له كوبل: كلا يا د. بوستمان، إنها مجرد عشر ثوان ليس إلا!


*كاتب تونسي









شخصية العام

كاريكاتير

إستطلاعات الرأي