كيف يمكن توجيه الرغبة فلسفيا؟

2025-02-14 | منذ 12 ساعة

كه يلان محمد*

 

زاد الاهتمام برصد الظواهر الحياتية من مُنطلق فلسفي وتفعيل الجانب العملي لهذا النشاط المعرفي لفهم الطبيعة البشرية. ولم تعدْ ترجمة الحياة إلى التنظير شغلاً شاغلاً للفلسفة، بل تخسرُ النظريات مصداقيتها إذا لم يتمْ التأكدُ من صلاحيتها لتحسين جودة التدبير المعيشي، لأنَّ العالم فاض بالأفكار المجردة والفرضيات المعقدة، إذن أدركَ عددُ من اللاعبين في الحقل الفلسفي بأنَّ ما يعيدُ الزخمَ إلى أوردة المفاهيم الفكرية هو تلبية المسعى المعرفي لمُتطلبات الواقع الإنساني وإعادة ترتيب الأوراق على خريطة الأزمات النفسية والوبائية والسياسية وغيرها من الإشكاليات الشائكة.
لا شك أنَّ قيمة الفلسفة تتمثلُ في كسر الألفة مع الصيغ الحياتية التي قد تبدو معروفة بالنسبة إلينا، وبالتالي من العبث مناقشة عناصرها، وفي الواقع أنَّ هذه النظرة تبسيطيةُ إلى حدٍ كبير، لأنَّ كثيراً من الأشياء بما فيها تركيبتنا البشرية لها أبعاد متعددة، تتأثرُ بعوامل قد تكونُ معلومةً أو مجهولة تقع خارج منطق الحسابات المعهودة. لذلك من الضروري التأملُ في السلوكيات وأشكال التفكير السائدة، ولا يصحُ التوهمُ بأنَّ كُلَّ ما يُمور به العالم اليوم من القفزات المتتابعة علامةُ على أن المجتمعات البشرية تعيشُ عصرها الذهبي، أو أن الإنسان أصبح متوازناً أكثر في اختياراته ويحترفُ المنطق العقلاني في ممارسة حياته.


باروح سبينوزا

ما يثيرُ الشكوكَ في صحة هذا الافتراض أنَّ ما يبدو تعبيراً عن الحرية في الظاهر، ما هو إلا نتيجة لإكراهات مركبة وعوامل مؤججة للأهواء التي يقومُ عليها النظام المُضلل للعقل الجمعي، لذا فإنَّ الشعور الغالب على نفسية الإنسان المُعاصر هو الاغتراب عن الذات، وترى أنَّه يفتقد كثيراً من المعرفة عن وجوده الأصيل وسط أمواج من المؤثرات المتلاعبة بكيانه النفسي.

جوهر الإنسان

وبالطبع يكون للرغبة دور بارز في برمجة السلوكيات وحركة التفكير، الأمر الذي يقود إلى معاينة موضع الرغبة من جديد في المدارس الفلسفية، وما يميزُ النهجَ الفلسفي عن الفهم الديني في النظرِ إلى مسألة الرغبة. هذا ما يدرسه المفكر الفرنسي فردريك لونوار في كتابه الصادر حديثا بعنوان «فلسفة الرغبة»، يذكرُ لونوار في المقدمة آراء عدد من الفلاسفة بهذا الشأن ويستعيدُ في الافتتاحية مقولة باروخ سبينوزا «الرغبة هي جوهر الإنسان» فالمحرك للحياة بشمولها وتنوعها هو الرغبة، ينتهي التشويق والمتعة في النشاطات الإنسانية، إذا ألغيت الرغبة، بل يتحولُ الإنسان إلى جثةٍ هائمة على وجهها. فالرغبة هي الدافع للمضي، والاستمرارية، والتجدد فمع غيابها تحاصر الكآبة الزمن الشخصي ويشقُ على المرء التحركُ في رماله. وعلى الرغم من أهمية الرغبة في زيادة التشوق والاحتفاء بالفرصة الوجودية، لكن لا ينكرُ لونوار إمكانية أن تفضي بنا هذه الطاقة نحو شغف مدمر، أو استياء دائم وهذا ما يعيدُ إلى الأذهان ما قاله آرثر شوبنهاور بأنَّ بندول الحياة يتأرجح بين المتعة والملل.
يعترفُ المؤلفُ بأنَّ الرغبة موضوع غامض يجبُ أن لا تلتبس مع الحاجة، كما يتساءل عن آلية الفصل بين نوعيها السيئ والجيد؟ والأهم من ذلك معرفة حقيقة الرغبات الشخصية وعدم الانجراف إلى شرك التقليد، ولكن هل ينجح الإنسانُ فعلا في تحقيق ذلك وهو على مرمى الشبكة العنكبوتية ووفرة الفضائيات؟ أيا يكن الوضعُ فإنَّ ما يهدفُ إليه لونوار في كتابه بالدرجة الأولى هو، الإبانة عن أبعاد الرغبة من منطلق فلسفي ويلتفتُ في السياق ذاته إلى ما وردَ في المتون الدينية من الوصايا الإرشادية لإصلاح الرغبة، غير أنَّ هذا المسعى الديني يجنحُ أحياناً إلى التقشف والزهد، وذلك ملحوظ أكثر لدى تيارات الحكمة المشرقية. يتفقُ الفلاسفة على تعريف الرغبة بأنها البحثُ عن كل ما هو جيدُ لنا. يشيرُ فردريك لونوار إلى أنَّ مفردة «الشهية» تتواردُ مرادفة للرغبة، وهي الحركة التي تعبرُ عن الانجذاب إلى السلعة بخلاف النفور الذي يمثل حركة تدفع للابتعاد. قد يبعدُنا التعمقُ في الجذر الاشتقاقي لمصطلح الرغبة، وما يفيده من معانٍ متعارضة في أصله اللاتيني، عن الموضوع الذي ينتظمُ ضمن التناول الفلسفي.
يذكر لونوار أنَّ الاكتشافات العلمية تؤكدُ تبعية الرغبات الأساسية من الأكل والجنس والتعارف الاجتماعي والمعلومات للمخطط الدماغي، وتتوسع حلقة هذه الرغبات لأنَّ الدماغ يكافئ الكائن البشري بمزيد من المتعة الكيميائية «الدوبامين» مقابل الاستجابة لتمددها المُستديم. والمُختلف في متابعة لونوار لتفاصيل الموضوع، انفتاحه على جميع العوامل النفسية والطبيعة والاجتماعية يلمحُ بهذا الصدد إلى رأي عالم الأنثروبولوجيا رينيه جيرار، بأنَّ الرغبة هي في الأساس محاكاة، إذ تجدُ الفردُ يحاكي الآخرين في ما يشتهيه. ما يعني أنَّ المقارنة الاجتماعية تقع في صميم الدوافع الإنسانية. وما يعقدُ الرغبة حسب قراءة لونوار أنَّ هذه القوة الجبارة مركبة من البعدين الواعي والتخيلي. وقد توصل التحليل النفسي إلى أنَّ الرغبة قبل أنْ تثبت في شيء ما تتحركُ في ديناميكية معقدة وخلاقة «العواطف، التخيلات، التوقعات وما سواها»، لذا يعلن غاستون باشلار أنَّ «الإنسان من إبداع الرغبة وليس من إبداع الحاجة».

المتن الأول
يبدأُ القول الفلسفي والتموقع في زاوية هذا النشاط العقلي بالعودة إلى المتن الأفلاطوني والآراء التي يقدمها على لسان أستاذه سقراط، وما يترشحُ في حواره مع تلامذته. ومن جانبه يناقشُ لونوار مفهوم الرغبة في الملعب الفلسفي، مُستعيداً اللحظة الإغريقية، إذ يقارنُ صاحب «الجمهورية» بين الرغبة وبرميل الدانا ييدات المثقوب الذي يستحيل أن يملأَ ومن هنا تظهر الإشكالية المرهقة كيف يمكنُ التمتع بالسعادة، فيما لاتني الرغبةُ تفور باستمرار؟! يرى أفلاطون أنَّ الرغبةَ نقصُ وما يسعى إليه الإنسان ويرغب فيه ليس إلا محاولةً لاستحضار ما فقدهُ. لا شك إنَّ هذه الصيغة يعتمدُ عليها كل من أفلاطون وسقراط لفهم الرغبة العاطفية، والشعور بالنقص ينشأُ لدى الإنسان نتيجة انفصاله عن نصفه الآخر، ولا يتعافي منه قبل الوصول إلى ما غاب عنه. صحيح أنَّ الرغبة مناطة بالافتقار في خطاب سقراط، غير أنَّ ما يميز الأخير من تلميذه هو اعترافه بأنَّ امرأة اسمها ديوتيما هي مصدر ثقافته عن الحب، ومن المؤكد أنَّ هذا الكلام أمر نادر عند الفلاسفة اليونانيين المعروفين بكراهية النساء. أكثر من ذلك فإنَّ الرغبة تعادلُ إيروس. ما ليس لدينا وما ليس نحن عليه هو، ما ينقصنا وبالأخير هذه هي أهداف الحب والرغبة على حد ما ذهب إليه فيلسوفُ أثينا.
مايجدرُ بالتأمل في هذا المنحى أنَّ آراء الفلاسفة متقاربةُ لمفهوم السعادة التي يزعمُ المرءُ أن تحقيقها رهن بتلبية الرغبات. يقولُ الفليسوف المعاصر أندريه كونت سبونفيل «إن كانت الرغبة افتقاراً، فإنَّ السعادة مفتقدةُ»، لا شكَ إنَّ عبارة سبونفيل تحملُ نغمة شوبنهاورية قانطة من الحياة. فكل ما يعقدُ عليه الإنسانُ الرهانَ لاكتساب السعادة يكونُ باعثاً على الملل لاحقاً. يلوذُ لونوار بدعابة برنادشو هارباً من الفيلسوف المتجهم في رأي الكاتب الإيرلندي أنَّ هناك مأساتين في الحياة: الأولى في عدم الحصول على ما نتوقُ إليه. الأخرى في الحصول عليه. أما كانط فيؤكدُ أنَّ السعادة ليست مثاليةً للعقل، بل للخيال.

بعدِ عرضه لجملةٍ من المقولات عن ضالة الإنسان الأبدية. والرغبة التي لا تشبع. يعود فرديرك لونوار إلى وصفة سقراط وما ينقله عن ديوتيما، أنَّ الحب ـ الرغبة كان نوعاً من الشيطان أو رسولا بين الآلهة والبشر يرشدنا من جمال الأشياء المادية إلى جمال الأشياء الأسمى، غير أنَّ هذا الطريق قد لا يسلكه إلا من يؤمنُ بقيمة التأمل، وينجحُ فعلا في توجيه رغبته نحو البعد الروحي. ربما يلخصُ رأي فرويد فحوى المفاهيم الفلسفية عن مساعي الكائن البشري لترويض طائر السعادة، «لم يدخلْ في خطة الخلق البتة أن يكون الإنسان سعيداً»، لكن من الخطأ أن يفهم كلام مدشن التحليل النفسي بأنَّه دعوة للزهد من الحياة، أو تعبير عن الإحباط، بل تذكير بمكر السعادة ولعبة الحياة وصرحَ سقراط قبل الجميع بأنَّ السعادة هي ما لا يعقبه الشعور بالندم.
لا يكتفي لونوار بالتنقيب عن موقع الرغبة في النصوص الفلسفية، بل يحاولُ تحديد ما يصعدُ من زخمها هنا يهتمُ بنظرية رينيه جيرار ومُعارضته للأطروحة الرومانسية، التي تُثمنُ طابع الرغبة العفوي والأصلي عند الفرد. وما يعتمدُ عليه جيرار لتقديم صورة مغايرة لفيزياء الرغبة. هو الروايات التي ألفها مارسيل بروست، وستاندال، وفلوبير، ودوستويفسكي يحاكي أبطال الأعمال الأدبية رغبات الشخصيات التي اتخذوها نموذجاً، كذلك الأمر في واقع الإنسان فالرغبة ليست إلا محاكاةً. لا ينتهي مسعى لونوار عند حدود الكلام التنظيري في دراسته لمحركات الرغبة، إنما يتابعُ سياسة الشركات والفضائيات لتفعيل الرغبة الاستهلاكية. إذ اكتشفَ أصحاب الشركات والقائمون على القنوات الإعلامية أنَّ الدماغ يسعى باستمرار لتحسين وضعنا الاجتماعي من خلال علامات خارجية سطحية. ويعترفُ تشارلز كترنج نائب رئيس شركة جنرال موترز «إنَّ مفتاح الازدهار الاقتصادي هو خلق حالة عدم الرضا المُنظم»، ومن الواضح أنَّ هذه الشركات في العالم اليوم قد طوعت المرئيات والحسابات الشخصية على المنصات الرقمية لاستدراج المتابعين إلى دورة الاستهلاك العبثية. يبحثُ لونوار في مفصل آخر من كتابه موضوع الجنس وتفريغه من الملمح الخيالي، لأنَّ كل ما يثير الغريزة مُتاح وأصبحَ الجنس قابعا في زاوية الإباحية.

حسب المعلومات التي أوردها فردريك في هذا السياق أنَّ البشرية تستهلكُ أكثر من 136 مليار مقطع فيديو كل عامٍ وهذا ما يشهد على صحة كلام جان بوديار بأنَّ الجنسانية لا تختفي في التسامي والقمع والأخلاق، إنما تتبخرُ بالتأكيد في ما هو أكثر جنسية من الجنس «الإباحية» من المعلوم أنَّ الرغبة تعادلُ الجنس في مُخيلة الجموع، بقطع النظر عن مدى صوابية هذا الفهم فإنَّ الترويج للإباحية تحت يافطة الجنسانية، يجردُ تلك الرغبة من طابعها الإنساني. ما يصبوُ إليه لونوار هو تصحيح خط الرغبة من خلال أفكار الفلاسفة، وتسليط الضوء على مناهجهم لتنظيم هذه الطاقة الإنسانية، وهي ليست محركاً للتكاثر العددي أو مصدراً للمتعة الحسية فحسب، بل إلى جانب ذلك فإنَّ وجودنا بأكمله على المستوى الروحي والفكري وقف على حسن التصرف مع الرغبة، فإنَّ أرسطو أول من أشار إلى تشابك الرغبة مع ملكات الروح الأخرى.
الخيال والفكر والإحساس. والنجاح في توجيه الصحيح للرغبة يكمنُ في التبصر بحكمة أبيقور، الذي كان يفصلُ بين الرغبات حسب ضرورتها، وهو يعبرُ عن شكره للطبيعة لأنها جعلت من السهل تحقيق الأشياء الضرورية وصعبت علينا الوصول إلى الأشياء غير الضرورية. فيما الإعلانات التجارية تخلط الأوراق وتوحي إلى المُشاهد بأنَّ كل ما يريده سيتحققُ له، وبالطبع أنَّ هذا الإحساس المُخادع يزيده توتراً وتفوته فرصة التدبر في حقيقة المعطيات المعروضة.
تتسعُ فصول كتاب لونوار لآراء كل من شوبنهاور ونيتشه وبرجسون، كذلك يتطرقُ إلى منهج الأديان المشرقية ويضيفُها لونوار مع الوصايا المذكورة في الإسلام والمسيحية واليهودية إلى أجندة يمكنُ التعويل عليها لإعادة توجيه الرغبة وتصريفها للعبور من الكمال الأقل إلى الكمال الأعظم وسيكون الإبداع في الفن أو الرياضة أو الطبخ أحد تجليات الجودة في العيش، وهكذا لا تتمظهر الرغبة في المشاعر المحبطة «التوتر، الحزن، الحسد والجشع»، ومن المناسب الإشارة في هذا المقام إلى ما ورد في الأساطير اليونانية بأنَّ الآلهة في الأولمب، إذا أرادت معاقبة أي شخص تغدق عليه كل ما يرغب فيه.


*كاتب عراقي








كاريكاتير

إستطلاعات الرأي