
موجة التفجير التي بدأت بانهيار حزب الله والمحور الشيعي لم تنه بعد تصميم المنطقة. الألواح التكتونية للشرق الأوسط لا تزال في حركة، وسقوط الأسد الذي اعتبر تطوراً مباركاً، كفيل بأن يتبين كتهديد جديد. وبينما المنطقة في طور التصميم، يجد الجيش الإسرائيلي نفسه يجتذب إلى بقاء طويل في ثلاث مناطق: غزة ولبنان وسوريا.
زعيم سوريا الجديد، أحمد الشرع الملقب “أبو محمد الجولاني”، بدل بزة الإرهابي ببدلة، ويبث خطاً رسمياً ومعتدلاً أكثر. يقول ويفعل كل الأمور الصحيحة: يمنع أعمال ثأر واسعة، ويحاول توحيد كل الطوائف والفصائل تحت قيادته، وتأسيس نظام وطني وليس متطرفاً – دينياً.
من اللحظة التي استولى فيها على الحكم في دمشق، يحرص على اللقاء مع كل مراكز القوة في سوريا في محاولة لإعادة تأسيس الوطنية السورية التي تتجاوز الأديان. كخريج حرب في العراق، لا يعتزم تفكيك جيش الأسد بل الإبقاء عليه كإطار وطني وغرس جيشه في داخله، الذي بات يعد الآن 100 ألف رجل. ومثلما يميل لفعله الآباء المؤسسون للأمة، يمتنع عن تعيين وزير خارجية ووزير دفاع تحته، ويبقي هذين المنصبين في يديه.
بينما تواصل إسرائيل التدمير الممنهج للوسائل القتالية الاستراتيجية المتبقية في سوريا، أمر الجولاني بفرض حراسة على مخازن السلاح كي لا تقع في أيدي ميليشيات مستقلة. سلاحنا الجوي حقق نتائج طيبة في تدمير سلاح الجو السوري ومنظومات الدفاع الجوي، وثمة مسألة حول مدى نجاح ضرب صواريخ أرض أرض السورية التي معظمها في أنفاق تحت أرضية. كما توجد علامة استفهام كبيرة على ماذا وكم تبقى من مخزونات السلاح الكيماوي. لكن وبينما هو يبث خطاً رسمياً، صور رجاله هذا الأسبوع وهم يتجولون في شوارع دمشق ويصفعون كل من شوهد يدخن سجائر (المحظورة حسب إسلام “داعش”). تأتي صور محاكمات ميدانية وإعدامات يقوم بها رجاله من كل أرجاء سوريا، وسيكون هذا التحدي الأكبر له: معظم مؤيديه جهاديون، رجال “داعش”، ولا يحبون خطه المعتدل.
الصحيفة الناطقة بلسان “داعش” توجت الجولاني كمن خان طريق الجهاد – التهديد الأكبر عليه في هذه اللحظة هو من رجاله. إذا ما اعتبروه معتدلاً أكثر مما ينبغي، فإن ولايته كزعيم سوريا ستقصر.
قطر هنا أيضاً
من يقف إلى جانب الجولاني هم الأسياد الدائمون لحركة الإخوان المسلمين. ومن الآن فصاعداً، هم الأسياد الجدد لسوريا: تركيا وقطر. القمة الدولية الأولى التي عقدها كانت مع وزير الخارجية التركي ورئيسي المخابرات التركي والقطري. يتخذ الجولاني صورة من يقبل إمرة تركيا طواعية، التي لم تتخل عن حلمها الإمبريالي. وبينما يتقلص النفوذ الإيراني، تعتزم تركيا الدخول إلى كل مكان يترك الإيرانيون. وإذا بقي الجولاني، ربما تكون لنا قريباً لأول مرة حدود مشتركة مع الأتراك في شكل دولة مرعية يقيمونها في سوريا. فضلاً عن التهديدات الداخلية على النظام الجديد في سوريا، من رجاله، فإن نقطة الاحتكاك التي ينبغي أن تعني إسرائيل هي الأكراد في شمال شرق سوريا، المدعومين من الولايات المتحدة ممن أبقوا على حكم ذاتي في معظم سنوات الحرب الأهلية. إذا حقق الرئيس التركي أردوغان تهديداته وشن ضدهم حرب إبادة أيضاً، فسيضعه هذا في مسار صدام مع الولايات المتحدة، وربما يشعل مواجهات في أجزاء أخرى في سوريا.
الروس، رغم صور إخلاء مواقع عسكرية من سوريا، لن يتنازلوا عن موطئ قدمهم في البحر المتوسط. فقد أجلوا مقدرات أسطولهم وقسماً مهماً من بطاريات الدفاع الجوي، لكن روسيا لن تتنازل عن معقلها الشرق الأوسطي الذي يشكل خشبة قفز لكل أعمالها في إفريقيا. من الصعب أن نرى كيف ستطردهم تركيا والجولاني. وهم على ما يبدو سيبقون في المجال.
إن الدخول الإسرائيلي إلى المنطقة العازلة في الجولان وما وراءها كان خطوة دفاعية واجبة، ووفرت الآن فرصة الصورة الواجبة لرئيس الوزراء. فضلاً عن دخول القوات، تسعى إسرائيل لخلق حوار مع أبناء القرى المجاورة، السُنية والدرزية، ممن لا يتماثلون مع طريق هيئة تحرير الشام، حاكم دمشق الجديد.
رجال الجولاني لا ينتشرون في الجنوب خوفاً من مواجهة مع المحليين ومع إسرائيل. بدلاً من هذا، دعا الجولاني زعيم السُنة في حوران أحمد عودة، إلى الحوار، وهو جهادي في الأصل، انضم إلى جيش الأسد كقائد لواء ونزع الآن بزته مرة أخرى وأصبح ثائراً. قوات هيئة تحرير الشام لا تقف في هذه اللحظة في جبهة الجولان أمام إسرائيل.
لنا إشارة من جنين
بغياب أحد آخر يأخذ المسؤولية، يبدأ الجيش الإسرائيلي بالاستعداد لبقاء طويل على الأرض، وقد يؤدي بنا هذا إلى مواجهة غير واجبة مع الجيران الجدد. قواتنا الإمبريالية بدأت تقع في حب أجزاء البلاد الجديدة، وقبل لحظة من عثورهم هناك على بقايا كنيس عتيق، يجدر بنا أن نقرر إذا كان ينبغي لنا ونريد أن نبقى على أرض سورية وندخل في احتكاك مع عدو جديد.
بالتوازي، ينبغي أن نرى إلى أين تتقدم موجة التفجير الإسلامية من سوريا. شيء من هذا رأيناه في جنين، في المواجهات مع رجال السلطة الفلسطينية في الأسبوعين الأخيرين. لم يكن هناك حسم، لكن رأينا رجال الأجهزة يقاتلون ضد القوات المحلية. سيناء قد تكون المكان الذي نرى فيه أيضاً اندلاعاً إسلامياً بإلهام من سوريا. فالمحافل الجهادية هناك أحياء يرزقون، ومصر قلقة ليس فقط مما يحصل في سيناء، بل أيضاً من الاستقرار في مصر نفسها.
المكان الأكثر تهديداً هو الأردن، حيث فاز الحزب المتماثل مع الإخوان المسلمين بخُمس مقاعد البرلمان في الانتخابات الأخيرة. ومع أن الأسرة المالكة الهاشمية عرفت كيف تقف في وجه هزات كبيرة على مدى الـ 80 سنة الأخيرة، فإنها تستعد لإمكانية هزة كبيرة أخرى، والغرب جاهز لمساعدتها بقدر ما يستطيع.
في لبنان، كل كارهي الشيعة يرفعون رؤوسهم ويرون فرصة لدحر حزب الله إلى مكانة جديدة ومقلصة في الدولة. وتلكؤ الجيش اللبناني فيما هو متفق عليه في جنوب الدولة، إشارة بأن حزب الله رغم ضعفه وزعيمه المتعرق، يعتبر قوة مهددة. الجيش الإسرائيلي الذي استعد لإخلاء المناطق التي احتلها، مطالب الآن بالاستعداد لبقاء طويل، ربما إلى ما بعد الستين يوماً التي تقررت في اتفاق وقف النار.
في زيارة هذا الأسبوع لدى قوات الجيش الإسرائيلي في الجبهة الغربية في لبنان، كان واضحاً بأنها تفتقد للوسائل اللازمة لبقاء طويل. الجيش يتردد في البدء بتزويد مثل هذه الرسائل انطلاقاً من فهم بأن وضع مؤشرات على بقاء دائم ربما يخلق آلية تعرض وقف النار للخطر. طوال الزيارة إلى الناقورة على الشاطئ اللبناني، كانت تشاهدنا سفينة صواريخ تركية، وهذا مؤشر آخر على القوة الصاعدة في الشرق الأوسط الجديد.
ألون بن دافيد
معاريف 20/12/2024