عبدالرحيم الشافعي- بالنظر إلى ما يكتبه أغلب النقاد من تمجيد وإشادة لا تنتهي بأغلب الأعمال السينمائية المغربية إن لم تكن كلها، يمكن القول إننا اليوم أصبحنا في حاجة، أكثر من أي وقت مضى، إلى اتباع نظرية “نقد النقد”، التي تمنحنا كنقاد أو قراء مساحة لتعلم مراجعة المقالات النقدية وتحليلها والتمييز بين الغث والسمين فيها، وفقًا لـ العرب.
يسأل الكاتب والأكاديمي البريطاني رونان مكدونالد في كتابه “موت الناقد” تساؤلات مهمة حول دور الناقد الأدبي منذ تراجع تأثيره في منتصف القرن العشرين، حيث يسأل كيف يمكن تحديد قيمة الكتاب أو الفيلم أو العمل الفني ومن المخول بتحديد هذه القيمة؟ يتساءل أيضا عما إذا كانت الخبرة والتدريب العملي يجعلان رأي الناقد أفضل من رأي أي شخص آخر؟ وهل يمكن القول إن عملا أدبيا أفضل من آخر كما لو أن القيمة الفنية يمكن قياسها؟ وعما إذا كانت قيمة الفن تكمن داخل العمل الفني نفسه أم أنها تتجلى ببساطة في رد فعل الشخص الذي يشاهد أو يقرأ هذا العمل؟
بينما يرى رولان بارت، وهو أحد أبرز كتاب القرن الحادي والعشرين، في مقالته الشهيرة “موت المؤلف” أننا لم نعد بحاجة إلى النقاد الأدبيين أو غيرهم، ولا يثير ذلك أي جدل، حيث أصبحت هذه المقالة الآن جزءًا من المنهج الدراسي الإجباري في الجامعات، ما يشير إلى أن السلطات الثقافية بدأت تتخلى عن دور الناقد الأدبي والاجتماعي، وتدعو إلى التحرر من خلال عبارة بارت “موت المؤلف وولادة القارئ”.
وتدّعي هذه العبارة أنها مع قتل المؤلف تحيي مفاهيم أخرى مثل الإبداع والخيال والإلهام، وتمنح القارئ متعة التأويل، حيث لا يعود لأحد أن يحدد ما يقصده الكاتب، بل يخلق كل قارئ معناه ويفسر ما يقرأه بطريقته الخاصة، وبهذا يتحول الجميع إلى مدّعين للثقافة بينما يتم إقصاء الناقد كمثقف وحيد يملك صلاحية إصدار الأحكام وتحديد الذائقة الفنية لدى الناس، ولكن من ينتقد الناقد ومن يحلل مقالاته باعتبارها نصوصا غير مقدسة وقابلة للنقد والتحليل؟ وهذا ما يسمى بنظرية نقد النقد.
ويعتبر “نقد النقد” مجالا بحثيا يركز على دراسة النقد الأدبي نفسه، إذ يتناول هذا المجال مراجعة وتحليل المقالات النقدية بما في ذلك مصطلحاتها وبنيتها المنطقية ومبادئها الأساسية وفرضياتها التفسيرية وأدواتها الإجرائية، ويتقاطع هذا المجال مع النقد الفني خاصة النقد السينمائي، الذي يسعى إلى تعزيز الفهم النقدي من خلال فحص الأساليب والأدوات المستخدمة في تقييم الأعمال السينمائية.
ويواجه غياب “نقد النقد” تحديات متعددة نظرا لتنوع الدراسات والتفسيرات المتعلقة به، حيث لا يوجد إطار ثابت يحيط به بشكل كامل، بينما يشير بعض الباحثين إلى القرن الرابع قبل الميلاد، مستشهدين بكتابات أفلاطون وأرسطو كأولى بواكير هذا المجال، ومع ذلك فإن تأصيل “نقد النقد” قد يكون أقل ارتباطا بفترة زمنية أو أدب محدد، باعتبار أن تطور العلوم يتم عبر تراكم المعرفة، لذا يمكن النظر إلى نشأة “نقد النقد” من خلال بداية الوعي النقدي له كظاهرة متطورة. وما يهمنا في نفس السياق، هو أن الفن السابع في المغرب في حاجة ماسة إلى نقد النقد السينمائي.
ويعد “نقد النقد” إحدى أدوات التحليل العميقة التي تسعى لفهم ومراجعة النقد ذاته، غير أن غيابه الملحوظ في مجالات مثل السينما المغربية والأدب يثير تساؤلات مهمة حول طبيعة التطور النقدي في هذين المجالين، ففي الوقت الذي يعكف فيه النقاد على تحليل وتقييم الأعمال السينمائية والأدبية، نجد أن المراجعة النقدية لهذا النقد ذاته تكاد تكون غائبة، وهذا يترك فجوة في التعاطي المعرفي مع الإنتاج الثقافي، كما أن غياب “نقد النقد” يعتبر عائقا أمام الوصول إلى فهم أعمق للممارسات النقدية، ويحد من القدرة على تطوير لغة نقدية ناضجة قادرة على مواجهة التحديات المتزايدة في المشهد الثقافي المغربي.
ويمكن تفسير غياب “نقد النقد” في السينما المغربية بعدة عوامل متشابكة، منها ما يعود على سبيل المثال إلى نقص التخصص الأكاديمي والتركيز على تطوير أدوات نقدية متقدمة، حيث يُركّز معظم النقاد على تحليل الأعمال السينمائية بشكل مباشر دون التعمق في مراجعة أساليبهم النقدية، ويرتبط ذلك بقلة الوعي بأهمية “نقد النقد” كأداة لتطوير النقد ذاته، بينما يُنظر إلى النقد غالبا كغاية في حد ذاته وليس كعملية مستمرة تحتاج إلى مراجعة دورية، بالإضافة إلى ذلك، يكون الغياب أيضا نتيجة للتوجهات الثقافية التي تفضل الاستهلاك السينمائي السريع على التحليل المعمق، ما يقلل من مساحة النقاش حول النقد وأدواته، وهذه العوامل مجتمعة تساهم في تقليص فرص نشوء حوار نقدي متكامل يهدف إلى تطوير السينما المغربية من خلال مراجعة النقد ذاته.
ومن جهة أخرى، فإن عدم تحليل المقالات النقدية كتلك التي يعتبرها أصحابها نصوصا مقدسة، قد يرتبط بعوامل نفسية وثقافية كشعور بعض النقاد بأن مكانتهم الفكرية تمنحهم حصانة ضد النقد، ما يجعلهم يرون نصوصهم كأعمال نهائية وغير قابلة للمراجعة أو التحدي وهذا مرض جنون العظمة، حيث يولد رهبة لدى الآخرين من توجيه النقد لهم خوفا من المساس بما يعتبرونه سلطة نقدية.
كما أن بعض الأوساط الثقافية تنظر إلى النقد كنوع من الهجوم الشخصي وليس كعملية بناءة تهدف إلى تحسين الفهم والتفاعل مع النصوص، وهذا ما يدفع الكثيرين إلى تجنب تحليل المقالات النقدية خوفا من ردود الفعل السلبية أو من أن يُنظر إليهم على أنهم يتحدون السلطة النقدية القائمة، وعليه فإن غياب ثقافة “نقد النقد” في الوسط الثقافي المغربي يساهم في تفضيل التركيز على تحليل الأعمال الإبداعية بدلا من نقد الأساليب والأدوات النقدية نفسها.
وليست المقالات النقدية في السينما كغيرها من النصوص محصنة ضد النقد والتحليل، بل هي جزء لا يتجزأ من الحقل الثقافي والإبداعي القابل دائما للتفكيك والدراسة، فوفقا لنظرية “نقد النقد”، تصبح هذه المقالات مواضيع مشروعة للنقاش والنقد، حيث يمكن تحليلها على مستويات متعددة، بما في ذلك دقة المنهجية النقدية وتماسك الحجج ونزاهة الأحكام المقدمة.
وما يعزز الحاجة إلى “نقد النقد” في السينما المغربية بشكل خاص هو حقيقة أن العديد من النقاد يكتبون تحت الطلب، مدفوعين بمقابل مادي أو امتيازات أخرى مثل الدعوات لحضور المهرجانات والعروض السينمائية، وهذا الوضع يثير تساؤلات حول موضوعية ومصداقية النقد المقدم، ويستدعي مراجعة نقدية شاملة لهذه النصوص التي تُعرض أحيانا وكأنها حقائق غير قابلة للطعن، حيث إن نقد المقالات النقدية يفتح المجال أمام مساءلة دوافع وأهداف الكتابة النقدية، ما يعزز من الشفافية ويدفع بالمشهد السينمائي المغربي نحو المزيد من الاحترافية والمصداقية.
ويعد تخصص “نقد النقد السينمائي” ضرورة ملحة في تطوير الفهم الثقافي والنقدي للسينما، حيث يهدف إلى مراجعة وتحليل النقد السينمائي بموضوعية وحياد، وهذا النوع من النقد لا يخضع للوساطة أو التحريض، ولا يسعى إلى الانحياز لأحد على حساب الآخر، بل يتخذ من المعرفة الثقافية والنقدية منطلقا أساسيا لعمله.
إن أهمية “نقد النقد السينمائي” تكمن في قدرته على إثراء المشهد السينمائي من خلال تقديم معلومات وتحليلات عميقة تساعد على فهم نقد النقد بحد ذاته، وتجعل من هذه الممارسة أداة لبناء تاريخ جديد لهذا النوع من النقد، وهذا التخصص يسهم في توثيق مسارات النقد السينمائي وتقييم تطوره عبر الزمن، وهذا ما يتيح للنقاد والمبدعين على حد سواء فهما أفضل لكيفية تأثير النقد على صناعة السينما وتطويرها، كما يفتح المجال لنقاشات أكثر شمولية وعمقا حول قيمة الأعمال السينمائية وكيفية تناولها نقديا، ما يؤدي إلى خلق حوار نقدي مستنير يساهم في رفع مستوى الفهم الفني والثقافي لدى الجمهور، بذلك يصبح “نقد النقد السينمائي” حجر الزاوية في بناء مشهد نقدي جديد يعتمد على النزاهة والمعلوماتية، ويدفع بعجلة التقدم الثقافي نحو الأمام بدلا من الحسابات الشخصية الفاشلة والمصالح الدنيئة التي يعتبرها أهل السينما ذكاء مهنيا، بينما هي وقاحة مهنية صرفة.