تفاؤل غير صالح للاستعمال

2024-09-02

إبراهيم الزيدي

علاقتي بالخبز قديمة، قدم البؤس الذي جئت منه. آنذاك كان الخبز يسمى: نعمة. وكنت أحب من الناس «ابن النعمة» لاعتقادي أنه إن لم يكن عند حسن ظنك، فلا يغدر بك، إلى أن امتلأت البلاد بأمراء الحرب وأولادهم وأحفادهم، فتغيرت النعم، وتغير معها مزاج العالم، فاستيقظت ملوثا باليأس.

منذ تلك الأيام قررت أن أبدد الوقت بالرسم، الرسم الذي نسيته حين تحول العالم إلى كلمات، لم أنتبه إلى تلك الفاجعة إلا حين رأيتك. تصوري أن يصبح الحب كلمة، والوطن كلمة، والشوق كلمة، والحرب، والهزيمة، والنصر، والموت. لقد أصبحت الكلمات بديلا للناس والمشاعر والعواطف والمواقف والأشياء، أصبحت اللغة كاميرا، تلتقط صورة ما يحدث بحيادية باردة، أيّا كان الحدث. ومهما كانت أهميته – عاجلا أم آجلا – سيدفن في شريط الأخبار. «غارة جوية تسفر عن مقتل أربعة أطفال من عائلة واحدة» «الحرائق تلتهم حقول القمح والشعير في محافظة الحسكة» «قضى 78 شخصا في غرق مركب يقلّ مئات المهاجرين قبالة سواحل اليونان» «المغنية الكندية سيلين ديون تؤجل جولتها العالمية إلى وقت غير محدد» وهكذا تتقدم أخبار، وتتقادم أخرى. ولم يقتصر الأمر على وسائل الإعلام التي تستغل خصوصياتها لتشكيل رأي عام، فاللغة مشاع، لذلك أصبح بإمكان المهزوم أن يلقي خطابا عن النصر، والقذر يتحدث عن النظافة، والبخيل يتحدث عن الكرم، واكتملت المهزلة حين اخترع الإنسان الأرقام، إذ صار بإمكاننا أن نقول لقد أودت الغارة الجوية بحياة (20) شخصا، هكذا ببساطة يمكن اختصار الدمار والموت وحياة الناس بجملة مؤلفة من كلمتين ورقم! إنسان الكهوف كان أنبل من أن يجمع القتلى وسبب موتهم بجملة واحدة، كان يرسم الحدث على جدران الكهف لتظل الفاجعة ماثلة أمام عينيه.

وما زالت النصوص المهذبة تطلّ علينا من وسائل الإعلام، من لي بقمر يعّري ليل هذا الوطن المؤجل، ويقلص المسافة بيننا وبين أحلامنا، فأنا ما زلت أداري هذيان اشتياقي، وأملأ المسافة بيننا بالصمت، «كجندي ينفض سبابته من قسوة الزناد» وأقبض بيدّي على أمل غير صالح للاستعمال. صدق أوكتافيو باث: إنّنا نبحث عن أنفسنا في الآخرين، ونفقد أنفسنا فيهم أيضا. منذ أن ولد اللون في سماء عينيك وأنا أبحث عن أحد ينتزعك من خيالي، ولا أحد، لدرجة صرت «أسمعك كلما طرق أحدهم الباب» وكأنك كل الذين أعرفهم، يقول أرنستو تشي غيفارا: الحب أن تمنح شخصا القدرة على تدميرك، وتثق أنه لن يقوم بذلك.

كاتب سوري








كاريكاتير

إستطلاعات الرأي