من خلال نظرة فاحصة ومتأملة لأجواء المسرح في أوروبا في أواسط القرن التاسع عشر، نلاحظ أن هناك فجوة كبيرة بين الدراما والحياة الواقعية. ويعود السبب في ذلك إلى أن العروض المسرحية آنذاك لم تكن سوى ميلودرامات صاخبة بالافتعال، أو مسرحيات تتسم بالعاطفة المرهفة، أو محاولات لإحياء تراث المسرح الإليزابيثي، أو مسرحيات شعرية كتبها الشعراء الرومانسيون وفشلت على خشبة المسرح لافتقارها إلى البناء الدرامي وحرفة الصنعة المسرحية. لقد كانت الرواية أكثر تعبيرا عن الحياة الواقعية، الأمر الذي دعا الروائي الفرنسي إميل زولا إلى أن يستجيب لهذه النزعة الواقعية فقام بتحويل روايته «تيريز راكان» إلى مسرحية عام 1873. فاندفع الكثير من الكتاب في أوروبا إلى ساحة المغامرة والتجريب على خشبة المسرح بحثا عن مناخ يجدون فيه تعبيرا حقيقيا عن واقع المجتمع ومشكلاته، إلا أن نصوصهم المسرحية ظلت أسيرة الشكل والبناء المحكم الصنع، وهذه الطريقة تسمى طريقة يوجين سكريب في المسرحية المحكمة الصنعة والبلاغة واللغة. إلى أن جاء الكاتب النرويجي هنريك إبسن وأحدث الفرق الكبير، عندما تمرد على الشكل والمضمون والأفكار، وقاده هذا التمرد إلى تفكيك كل الأواصر الوهمية وعلاقات الزيف والرياء التي يقوم عليها المجتمع، أضف إلى ذلك درايته السايكولوجية بأعماق الإنسان ونقائضه وانفعالاته.وفقا لموقع القدس العربي
لم يكتف إبسن بثورته على العادات والتقاليد الاجتماعية البالية، بل إن مسرحه زلزل كيان المجتمع الأوروبي وعرّاه تعرية كاملة، عندما اخترق العديد من التابوهات الاجتماعية والدينية والجنسية، التي كانت محظورة آنذاك. لقد أضاف إبسن إلى عناصر المسرح المتمثلة في العرض والعقدة والحل، عنصرا يحل محل الأخير وهو المناقشة، وفي المناقشة يتم تطور الحدث تطورا دراميا سريعا وتفصح الشخصيات عن مكنوناتها الباطنة والمستترة، فالمناقشة هي ذروة الحدث الدرامي الذي تتضح فيه معالم الشخصيات وغموض الأحداث عن طريق الحوار والجدل، ويمكننا القول أيضا إن أبسن هو أول من أضاف إلى المسرح والدراما فكرة النهايات المفتوحة.
تعتبر مسرحية «بيت الدمية» تعرية وتفكيكا للمؤسسة الزوجية، فإبسن يتوغل في عمق العلاقات الزوجية ليعريها من أوهامها القائمة على الكذب والمواربة والخداع.
فلورا زوجة هيلمر هي تلك الإنسانة التي لا ترى في الحياة إلا ما هو ظاهر أمامها، وما يطلبه منها الواجب، فنراها تحاول قدر الإمكان الحفاظ على بيتها وأطفالها وإرضاء زوجها بكل الطرق، ويصل بها الأمر إلى أن تلجأ إلى طرق غير شرعية عندما ترى زوجها قد أصابه المرض، ويحتاج إلى مبلغ من المال للسفر والعلاج، فتضطر إلى تزوير توقيع والدها المتوفى، وتقديم الصك إلى أحد الموظفين الفاسدين الذين يعملون عند زوجها، دون علم زوجها، وعندما يصبح زوجها مديرا للبنك يأتي هذا الموظف إلى بيتها ويهددها بالصك، إن لم يبقه زوجها في الوظيفة، بل يذهب أبعد من ذلك ويطلب منصبا أرقى من منصبه السابق. وعندما يعلم زوجها بالأمر يبدأ بتوبيخها وتقريعها، وإنها غير مسؤولة وغير جديرة بتربية الأطفال، بل ينكر حبه لها، لكن نرى أن هذا الزوج يتغير ويعتذر من زوجته عندما تأتيه رسالة من الموظف نفسه يبلغه فيها بأنه تنازل عن المبلغ بصك قانوني، هنا نلاحظ هيلمر الزوج وقد عاد إلى طبيعته السوية ويحاول أن يعيد الأمور إلى نصابها بالتقرب والتودد إلى زوجته.
لكن نورا هنا ترى أنها لم تكن سوى دمية في بيت زوجها ووالدها، ولم تكن حرة ولا صاحبة إرادة، وهنا تعي نورا أنها لم تكن تعيش إلا في الوهم، وقد تلاشى هذا الوهم الذي كان يكبلها، وهنا تخرج نورا تاركة زوجها وأطفالها، ولا نسمع في المشهد الختامي سوى صفقة الباب، فصفقة الباب هذه كانت بمثابة زلزال دوى في أوروبا وأحدث شرخا في بنية المجتمع القائم على الدجل والكذب والنفاق. إن تمرد نورا هو تمرد الإنسان الحر الواعي بإنسانيته، والمستقل بشخصه عن كل إكراه وعبودية. لكن تمردها هو الذي أفضى أخيرا إلى تلك الحرية، وقد استشهد طبيب النفس الألماني والفيلسوف الوجودي كارل ياسبرز بتلك المسرحية، ورأى أن نورا لم تكن حرة إلا بعد تلك الانهيارات التي عصفت بعالمها، وهذا ما يسميه ياسبرز بالمواقف الحدية أو النهائية، وهذه المواقف هي أساس الحرية الباطنية التي يبلغها الإنسان عندما يعلو على عذابات وآلام الماضي.
تسلط مسرحية «الأشباح» الضوء على التناقض بين القيم الأخلاقية والمثل، وبين الشرور والخطايا التي تجري في الخفاء، فنحن لا نرى من الأشياء والأحداث إلا ظاهرها، ولا نعرف من صفات الأشخاص إلا ما يتبدى لنا من صفات ومظاهر.
لم يخل مسرح إبسن من الإرهاصات الوجودية، كحرية الاختيار، والإرادة والمسؤولية، وهذا ما نراه واضحا جدا في مسرحية «سيدة من البحر». تقول إيلدا في حوار مع زوجها فانجيل: أعرف أنك تستطيع أن تبقيني هنا، فلديك القوة والحق، ومما لا شك فيه بأنك ستستعملهما.. لكن لي عقلي- كل أفكاري ورغباتي وأشواقي – ليس لك عليها أي سيطرة، إنها ستصل وتتوق إلى المجهول الذي خلقت من أجله، الذي أبعدتني عنه.
فانجيل: كانت أفكارك في مكان آخر.. لكنك الآن حرة مني ومن أفكاري. وتستطيع أعمق أعماق حياتك أن تسلك دربها الصحيح ثانية، لأن اختيارك حر الآن ـ والمسؤولية تقع عليك يا إيلدا.
تسلط مسرحية «الأشباح» الضوء على التناقض بين القيم الأخلاقية والمثل، وبين الشرور والخطايا التي تجري في الخفاء، فنحن لا نرى من الأشياء والأحداث إلا ظاهرها، ولا نعرف من صفات الأشخاص إلا ما يتبدى لنا من صفات ومظاهر. فالسيدة إلفنج زوجة الفنج المتوفى، تبني ملجأ لرعاية الأيتام باسم زوجها المتوفى، وما يعرفه القس ماندرز وبقية الناس أن السيد الفنج كان رجلا ذا خصال حميدة وفضائل عديدة، والملجأ الذي بني باسمه تخليدا له وتمجيدا لذكراه، إلا أن تلك ليست الحقيقة، فالسيدة الفنج ولسنوات كانت تخفي على الجميع حقيقة زوجها المرة، التي لا يعرفها أحد، وهي أنه كان رجلا فاجرا زنديقا لا يتورع عن ارتكاب الآثام والموبقات الجنسية مع النساء، إلى أن وصل الأمر إلى مخدع السيدة الفنج، فلم تستطع التحمل وآثرت أن تهجر البيت، إلا إنها عدلت عن الأمر واضطرت أن تصبر على أذى زوجها، لكنها دفعت بابنها أوزفوالد إلى السفر لدراسة الرسم، ليبقى بعيدا عن تلك الأجواء القذرة التي تسود المنزل. وسرعان ما تتكشف الحقيقة أمام القس ماندرز الذي يهتم كثيرا بالمظاهر الاجتماعية المتمثلة بالتدين الشعبوي والأخلاق الظاهرة، ووسط هذه الصدمة، تجرنا هذه الحقيقة إلى حقيقة أشد سوءا ومرارة، فلا تستطيع السيدة الفنج الخلاص منها، وهي أن الابن ورث مرضا عن أبيه نتيجة آثام الأب وعبثه اللامسؤول، فخطايا الآباء يدفع ثمنها الأبناء، وهنا تأكيد على فكرة الحتمية البايولوجية التي تسحق الإنسان مهما كانت إرادته قوية، بل إن الابن ورث طريقة أبيه في المشي وشرب الغليون، وحتى في علاقته مع النساء، لكن الحقائق تبدأ لنا بالتكشف رويدا.. رويدا فالمجهول المرعب يكمن خلف هذه الستائر المظلمة، فازفولد نراه يميل كثيرا إلى ريجينا الخادمة ويحاول ملاطفتها ومداعبتها، وهي تستسيغ الأمر وتقبله، لكن الأم هنا تكشف لنا عن حقيقة مدوية وهي أن ريجينا أخت أوزفولد من ابيه الذي كان على علاقة بأمها الخادمة، وأن لها الحق في البيت مثل أخيها تماما، وفي الوقت نفسه يصارح أوزفولد أمه بحقيقة مرضه الخطير، الأمر الذي يجعل الأم تنهار، وريجينا تتخلى عن أخيها المريض وتهجر البيت، وفي هذه المسرحية تحديدا نرى اللغة الرمزية ودلالاتها في مسرح إبسن، وهي كلمة الشمس، التي ظلت تتردد كثيرا على لسان الابن، أريد الشمس… الشمس، وفي المشهد الأخير نرى أن أوزفولد يريد من أمه أن تطلق عليه رصاصة الرحمة وأن تضع له السم، لتنتهي المسرحية بإصابة أوزفوالد بنوبة خطيرة من أعراض المرض، ونرى الأم تهرع إليه ولا ندري إن كانت ستنقذه، أم لتعطيه السم، لكن ينتهي المشهد وتنتهي المسرحية نهاية مفتوحة بتلك الكلمات …أريد الشمس، أمي إعطني الشمس.
لقد أدرك إبسن وبحسه الدرامي والسايكولوجي أسس الشر وما تقوم عليه حياة الإنسان والمجتمع من صراعات وتجاذبات تحركها الشرور والغرائز. أما الأشباح فهي ظلال الماضي الثقيلة التي تكبل حريتنا وخياراتنا، هي كل ما يؤثر فينا وعلينا ما ورثناه من أبائنا وأمهاتنا من أمراض وعيوب ونواقص، وما تجذر في شخصيتنا وهويتنا من أفكار بالية ومعتقدات قديمة. إن مسرح إبسن ينطلق من الواقع في تسليطه الضوء على الخلل الذي يشوه الحياة والعلاقات الإنسانية، من ابتذال وانحطاط وشر، لكنه لا يرسم لنا واقعا بديلا أو مغايرا، كما أنه لا يعطينا الوصفات الجاهزة المتمثلة بالنصائح والمواعظ. مسرح إبسن هو تمردي ثوري بالدرجة الأساس، يخلخل ثوابت المجتمع، لكنه في الوقت نفسه ينفتح على الحرية ومعطياتها عند الفرد وما تنطوي عليه هذه الحرية من قيم روحية منفلتة من قيد العادات والموروثات المتهالكة